المفكر والسياسي المعروف (المحبوب عبد السلام) يضع القضايا تحت المجهر (2):
المحبوب رجل معروف باهتماماته الفكرية والثقافية، ومن هذا المدخل ولج إلى عالم السياسة، وهو من المنظرين القلائل لمسار الإنقاذ قبل المفاصلة، بعدها اختار لنفسه مساراً جديداً لم يبعده عن فكر حركته كثيراً، (المحبوب) فضَّل أن يكون جغرافياً بعيداً عن مواقع الأزمة، فيما ظل عملياً ناشطاً ومهتماً بتفاصيل ما يحدث من تطورات سياسية في السودان في الجانب الآخر، ويعتبر من الإسلاميين الذين حاولوا تقديم انتقادات لتجربتهم في الحكم، إضافة لقناعات أخرى فيما يتعلق بمسألة تداول السلطة.
(المجهر) التقت (المحبوب عبد السلام) بشقته في القاهرة وطرحت عليه جملة من القضايا الراهنة وغيرها.
{ كثير من القوى السياسية التي لا تتفق معكم، وتهاجم تجربتكم، تقول إن أكثر الممارسات والانتهاكات وقعت في عهدكم؟
– هذا سؤال مهم، لماذا قامت هذه الممارسات العجيبة، أنا كنت أفكر في تجربة الاتحاد السوفيتي وهو دولة قديمة وأعرق من السودان وجدت فكراً مثل الفكر الماركسي وأنشأت حزاماً من الدول حولها بعد أن حكمت 50 عاماً انتهت كلها إلى الفشل ومازالت هذه الدول تتعثر إذا قارنتها بدول أوروبا الغربية، هذه تجربة كبيرة في الاستبداد، قارن مثلاً تجربتنا هذه مع ما يحدث في سوريا، ومع ما كان يحدث في عراق صدام وليبيا القذافي فكما قال الشاعر: (والظلم من شيم النفوس.. فإذا وجدت شخصاً لا يظلم فالعلة ألا يظلم).
{ ولكن أنتم تجربتكم تجربة إسلامية يفترض أن تدعو إلى الفضيلة واحترام الإنسان وحقوقه وكذا؟
– كل هذه الأفكار سواء كانت ماركسية أو البعث الفكر القومي العربي كانوا يستهدفون العدالة وخير المجتمع وكرامة الإنسان وخلافه.. الإنسان تكون لديه الدوافع القوية والإيمان ولكن لا يكون عنده العلم الكافي بالواقع، بعد ذلك التجربة نفسها لديها معادلاتها، كما قلت لك، فأنت تفوض سلطاتك للعسكر وبعدها لا تستطيع استعادتها.
{ مقاطعة: كل هذه الممارسات تمت وأنتم جزء من النظام والترابي كان هو القائد الفعلي؟
– لم تكن الأمور تحدث بدون مقاومة داخلية، كانت توجد أصوات كثيرة تحتج من الداخل.
{ كيف كان شكل هذه الاحتجاجات؟
– أغلبنا جئنا من خارج السودان وسمعنا بأشياء غير مرضية تحدث فاجتمعنا مع عدد من المثقفين..
{ أما كان الأجدر أن توقفوا الأشياء التي ترفضونها وبعدها تدعون لفسح المجال أم أن هناك أجهزة لم تكن تحت السيطرة؟
– هناك أجهزة لم تكن تحت السيطرة التامة، بمعنى أنها كانت محصورة في المجموعة المكلفة بتأمين (الثورة)، مثلاً نصف العام الأول للثورة حدثت فيه تجاوزات ضخمة والستة أشهر التالية، في ذلك العام الترابي كان في السجن.. في المرحلة الأولى الأجهزة كان يشوبها شيء من الاضطراب، لكن توحدت بصعوبة.
{ لماذا؟
– توحدت بصعوبة لأن مراكز حماية الثورة تعددت، وفي ذلك الوقت كنا نخوض حرباً في الجنوب وعمليات عسكرية ودفاع شعبي، كان المشهد كله عسكرياً، وفي تلك اللحظة تبدو المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان كأنك تغرد خارج السرب، هذه ظروف موضوعية ولكنها لا تعطي العذر.
{ بسط الشورى وحقوق الإنسان من سمات الإسلام، هل كان من الصعب إنزال الشعارات الإسلامية الى أرض الواقع أم ماذا حدث؟
– حتى في العالم كله، فمنذ أوائل التسعينيات بدأت مسألة حقوق الإنسان تصبح شيئاً مهماً، أنظر لهذه القصص التي تخرج من الدول العربية ومن الدول الاشتراكية السابقة، تعذيب مهول، وقيادة الحركة الإسلامية نفسها كانت في سجون نميري أكثر من ثمانية أعوام، هذا تاريخ نقرأه الآن بدون مرارات وبدون تحيز، ولا بد أن يُدرس لنخرج أجيالاً بريئة، وأنا دائماً ما أسأل سؤالاً من أين أتى هؤلاء الناس؟ هم جاءوا من المجتمع السوداني.
{ البعض يرى أن الحركات الإسلامية على مختلف مسمياتها إقصائية ولا تقبل الآخر؟
– قبل أيام كنا في الدوحة وأشار أحد اليساريين الكبار إلى أن الترابي (فكره أحادي)، وأذكر أن د. التجاني عبد القادر رد عليه وقال إن أهم شيء في فكر الترابي هو قبوله للتعددية، تعددية الآراء، فالفكر الإسلامي الذي تبنته الحركة الإسلامية كانت فيه مساحة، ولكن حتى داخل الحركة الإسلامية السودانية تجد أن الجانب الفكري لم يعلُ، حيث علت عليه الجوانب العملية وعلت عليه كما قلت لك أجهزة المعلومات والأجهزة التي تستحوذ على مكاسب سريعة.
{ ما هي نتائج مؤتمركم في الدوحة ولماذا هذا المؤتمر؟
– هو مبادرة من سودانيين، مبادرة من الدكتور عبد الله علي إبراهيم ود. النور حمد والدكتور عبد الله البشير، والفكرة قد تخطر في بال أي إنسان مثقف أو حادب أو حتى مراقب أو صحفي، أنه إزاء ما يحدث في السودان هل النخبة المفكرة والمثقفة والكاتبة تجلس وتنتظر حتى ينهار السودان، أم تقوم بمبادرة؟ وأنا قلت في ورقتي إن هذه مبادرة لكسر الصمت، واتفق أن اثنين من المبادرين كانا موجودين بالدوحة ولديهما علاقات استفادا منها في تهيئة المكان، لكن كل الجهود سودانية وهي مائدة مستديرة وعمل سوداني محض.
{ لمادا اخترتم الدوحة مكاناً للاجتماع؟
– عقد في الدوحة التي كثيراً ما استضافت أطرافاً سودانية، ولكن هذه المرة استضافت (الانتلجنسيا).
{ بعض النخب المصرية التي قابلتها هنا تحمل الحركة الإسلامية في السودان مسؤولية انفصال الجنوب ويتخوفون من صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر؟
– بالنسبة للجزء الأول، فالحركة الإسلامية في السودان أكملت مسألة انفصال الجنوب وضيعت السنوات الأثمن والأخطر في بقاء السودان موحداً، وهي سنوات نيفاشا وما بعدها، وأنا كنت دائماً ما أرى أن نيفاشا يمكن أن تفضي إلى الوحدة.
{ كيف؟
– ظرف حدث هو وفاة جون قرنق، وأيضاً التطبيق السيئ للاتفاقية من قبل المؤتمر الوطني، ولكن القضية تبدأ منذ العام 1955، أي ما قبل الاستقلال، وفي ذلك كتب الدكتور منصور خالد مجلدات. الإخوة في مصر معهم حق، ولذلك أنا دائماً ما أقول للإخوان المسلمين في مصر لا بد من دراسة تجربة السودان، هم حتى الآن لم يعوا هذا الأمر جيداً، فهم يعتقدون أنها تجربة بعيدة وفاشلة ولذلك لا تستحق الاهتمام الكبير، والقرآن دائماً يذكر العظات والصبر من قصص الأقوام، فلا بد من الاتعاظ والفهم، ومهم جداً دراسة تجربة السودان، ومهم جداً أن يحذر المجتمع المصري من تكرار تجربة السودان على يد الإخوان المسلمين هنا.
{ هل تحدثت إلى الإخوان المسلمين في مصر بهذا الخصوص؟
– زرت المركز العام للإخوان المسلمين وقمت بإهداء المرشد العام للجماعة والقيادات السياسية نسخة من كتابي، وهو الوحيد الذي رصد السنوات العشر في حكم الإنقاذ من الداخل، لكن هم لم يدعوني كما دعتني مجموعات يسارية كثيرة للحديث عن الكتاب، ولم يتجاوبوا مع النصح.
{ ثورات الربيع العربي أتت بالإسلاميين في تونس ومصر وليبيا، كيف تنظر لمستقبل الحركة الإسلامية في السودان في ظل تجربته الحالية؟
– الإسلاميون فازوا في تونس ومصر وليبيا لأنهم أكثر فئة تعرضت للاضطهاد من قبل النظم المزالة، وبالتالي وجدوا التعاطف، أيضاً شعار الإسلام يستلهم العاطفة في المجتمعات الإسلامية، لكن حتى في مصر خلال 4 أو 5 شهور من الممارسة البرلمانية، تجد أن شعبية الإخوان المسلمين تراجعت، وبالنسبة للشعوب هي تعطيهم الفرصة وتجد ذلك أيضاً في قطاع غزة بالنسبة لحماس، أعطوهم فرصة لكن ثبت أنهم ليسوا بمستوى التحدي.
{ مقاطعاً: أين تكمن المشكلة بالنسبة للإسلاميين؟
– ليست لهم تجربة في الحكم، وليس لهم علم كافٍ لقراءة الحاضر والمستقبل، ومن ثم يخططون وينظرون وينفذون، ومع أن لديهم الطاقة، إلا أنهم يحتاجون لتمرين فكري ونفسي، حتى أن هنالك مشكلة ستظهر في المستقبل، فالإسلاميون إذا لم يقرأوا تجربتنا في السودان جيداً، سيكون حظهم أسوأ من حظنا، انظر لتونس كيف أن مشاكل الدولة والحياة اليومية بدأت تحاصر النهضة الإسلامية، رغم أنهم من حيث الانفتاح على الآخر ووزن السلطة قدموا وزنة لا بأس بها، والحركة نفسها في تونس تشبه الحركة الإسلامية في السودان من حيث سيطرة العقليات الأمنية، وانحسار الجانب الفكري، ولحسن الحظ الغنوشي أقل علماً بكثير من الترابي، لكن التجربة وممارسته للحياة وحياته في الغرب ألهمته الكثير.
{ في حديثهم عن الأزمة الاقتصادية الحادة الآن كثيرون يقولون إن الحركة الإسلامية أصلاً لم تكن تمتلك برنامجاً ورؤية اقتصادية حتى قبل وصولها إلى الحكم؟
– الحركة الإسلامية السودانية تحديداً يوجد بها عدد لا بأس به من الاقتصاديين الذين درسوا في الجامعات الغربية وتخصصوا ومارسوا العمل في المصارف، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإكمال عدة التحول الاقتصادي على المستوى النظري، فقد كان البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي جيداً، لكن سياسياً كانت توجد مشكلة في الخضوع الزائد لشروط صندوق النقد الدولي آنذاك، مع أن البدائل كانت موجودة، لكن الذين اختاروا من بين البدائل الاقتصادية هم السياسيون.. لدينا علة في الاقتصاد السياسي، وكذلك كان من المفترض معالجة سلبيات البرنامج الثلاثي سريعاً، وكنت قد قدمت ورقة في هيئة الأعمال الفكرية وأشرت إلى المشكلة كثيراً في الفصل الذي أسميته (اقتصاد الإنقاذ من الفلسفة إلى الفوضى)، وهذا العنوان ليس دقيقاً، لأنه لم تكن هنالك فلسفة متكاملة كما أشرت أنت، ولكن كانت هنالك ملامح رؤية اقتصادية في خطة وتنزل لمراحل وتراجع، لكن فجأة تحولت إلى فوضى، أنظر إلى ثروة البترول التي بددت أكثر من (60) ملياراً، أين ذهبت؟ أين الطرق والمدارس والمستشفيات والمشاريع التي ستعوض البترول؟ والله سبحانه وتعالى عاقبنا، النفط جلب لنا اللعنة، حيث فصل الجنوب والبترول ذاته ذهب، عقوبة سريعة مستحقة.
{ كيف تقرأ مستقبل وصول الإخوان إلى الحكم في مصر؟
– الإخوان تنظيم عالمي، والإسلام أممي وكوني وإنساني، ومصر والسودان جاران، وهم يزورون السودان أكثر من بقية القوى السياسية المصرية، وعلاقتهم بالمؤتمر الوطني قد تكون أتاحت لهم التعرف على السودان، وبرأيي أن ملف السودان سيكون من أنجح الملفات لدى الحكومة المصرية الجديدة.
{ هل ينعكس ذلك على حل قضية حلايب؟
– هنالك فرصة لحلها حلاً مثالياً، أولاً الذهاب إلى التحكيم الدولي لنعرف هل حلايب سودانية أم مصرية؟ وكان ينبغي أن نذهب إليها، يجب أن لا تكون منطقة نزاع كبيرة يجب أن تكون منطقة تكامل.
{ هناك مسألة فكرية مازالت تتفاعل وهي مسألة الوطن في الإسلام عند الإخوان المسلمي،ن وهذه أثارت حفيظة الشعب المصري أخيراً؟
– سيد قطب أثار ذلك حينما قال إن (جنسية المسلم عقيدته)، ولكن فكر سيد قطب لم يتم تبنيه من قبل الإخوان المسلمين في مصر، وبالنسبة للسودان نحن ندعو الآن لحوار بين الأطراف الفكرية في السودان – الإسلاميين على إطلاقهم – عن فكرة الوطن وهويته وعلاقته الخارجية، وعن مسألة العلمانية والإسلام والدولة الدينية، هذا كله فيه جانب نظري مهم وآخر عملي مهم كذلك لا بد أن يناقش.
{ هنالك إشكالية برزت أخيراً إقليمياً هي التطرف الديني والاعتداء على الأضرحة.
– كنت أتحدث إلى الشيخ راشد الغنوشي قبل عام من انتصار الثورة في تونس وقلت له إن الحركة الإسلامية خرجت من المساجد والمدارس والأحياء والأندية والجامعات، وذهبت إلى الجهاد والأمن والخارجية وغيرها، والمجتمع لا يقبل الفراغ فتقوم فيه تيارات ليس لديها وعي الحركة الإسلامية وحكمتها واعتدالها فتجنح هذه بالمجتمع إلى التطرف، وتجد كثيراً من الشباب ليس لديهم التأهيل الفكري الكافي والمعرفة بالإسلام والعلوم الإنسانية ويميلون إلى تصنيف الحياة إلى أسود وأبيض ويصل الأمر إلى مستوى الإرهاب.. راشد الغنوشي علق على حديثي وقال لي: كأنك تتحدث عن تونس، والآن كل الشواهد في تونس تؤكد هذا الكلام، وفي تقديري نحن أحدثنا هذا الفراغ، وهذا خطر كبير جداً، ليس في السودان فقط بل في كل العالم الإسلامي ولا سيما العالم العربي، ونحن في السودان لا يوجد لدينا هذا المزاج المتطرف الحاد، ولم نفرز أي حركات، لكن رأينا في الفترة الأخيرة حوادث متفرقة تؤكد أن هذا التيار يمثل خطراً حقيقياً وكبيراً جداً وقد يكون من أكبر الأخطار على وحدة السودان وهويته وتماسك مجتمعه وعلى قيمه التي جاءت من تربيتنا الصوفية، والمتطرفون عادة ما يقومون بتكفير المفكرين والجماعات، وفي النهاية يتسلمون السلطة نفسها، ولا بد من إخضاع هؤلاء لمراجعات كما حدث في مصر..
ولأكون أكثر وضوحاً معك فإن منبر السلام العادل يحلم بوراثة الحركة الإسلامية عن طريق التحالف بين عنصريين ومتطرفين، كما أن هنالك تياراً داخل المؤتمر الوطني يتبنى أكثر التيارات تطرفاً، لكن القبلية والعنصرية نار ستحرق.. أنت تذكر أن المجتمع الدولي سيطر على شمال العراق لمدة (10 أعوام) قبل سقوط صدام حسين منذ حرب الخليج الأولى، هذا يمكن أن يتكرر في دارفور أو في النيل الأزرق، لذلك اجتمعنا في الدوحة كمفوضين لبحث كل وسيلة حتى لا يتبدد السودان، وشبح التقسيم قائم، والعالم برأيي ليس حريصاً على تقسيم السودان الآن، إلا إذا استحال أن يجمع، عندئذٍ يمكن أن يلجأ الي هذا الأمر.
{ كيف ترى الوضع الاقتصادي الآن؟
الحالة الاقتصادية الآن يمكن أن تفضي إلى فوضى، ولا بد أن ننزل بهذه الأزمة على سلالم أنيقة، وما تزال لدينا طاقة روحية وفكرية يمكن أن نتواثق على شيء، وتوجد فرصة للحل.