الموازنة وفهم المواطن
أهم ما كشفته حالة الحراك الإعلامي والسياسي وبالضرورة البرلماني التي صاحبت النقاش حول مشروع مقترحات الموازنة، ذاك النقاش العريض الممتد من المواطنين إلى الصحافة ثم الساحة السياسية. صحيح أن الآراء تباينت والمنطلقات قد تختلف لكن المقاصد حتماً واحدة ومتفق عليها، وهذا أمر يكسب هذه الموازنة تفويضاً وإقراراً، وفنياً فإن وزارة المالية ستركز قطعاً على زيادة معدل النمو الاقتصادي وزيادة حجم ومعدل الاستثمار المحلي والأجنبي وزيادة الإنتاج، وتطوير أداء البنيات التحتية مع التوسع في إنتاج الكهرباء، إلى جانب الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحقيق معدل نمو شامل ومستدام، وخفض عجز الموازنة، وعجز الميزان التجاري بزيادة الصادرات وإحلال الواردات. وكلها تظل ثوابت في أي مشروع بهذا الخصوص إجمالاً.
نحن الآن على مشارف العام 2016 ولو أن سؤال جاز حول ماهية التحديات الاقتصادية لكانت بالإجمال، أنها تتمثل في الديون والإنفاق على الاحتياجات الأمنية ومقابلة الدعم المتزايد لأسعار البترول ومحدودية الموارد والعقوبات والحصار الاقتصادي، وارتفاع أسعار السلع الغذائية المستوردة وتزايد الالتزامات القومية للحكومة، وسيكون طريفاً أن علم القارئ أنها ذات التحديات التي طرحها الدكتور “عوض أحمد الجاز” حينما كان وزيراً للمالية عندما قدم للنواب في البرلمان خطاباً حول الأداء ربع السنوي عن موازنة العام المالي 2008م ! ولهذا فإني اعتقد أن إدارة الملف الاقتصادي من أشق المهام، لأن التحديات التي تواجهه ثابتة وأغلبها فوق طاقة احتمال التفكك بسهولة. ورغم هذا فإن القدرة على التماسك في الاقتصاد الوطني والصمود رغم هذه الظروف، في حد ذاته منجز لا يمكن إهماله رغم الإقرار بوجود معاناة لا ينكرها أحد.
الظروف المحيطة بالبلاد من ترصد واستهداف وحصار معلن وغير معلن، وتكالب الأعداء عليها تبدو ظروفاً بالغة التعقيد، تجعل مجرد الاحتفاظ بقدرة وزارة المالية على العمل والإنجاز معجزة، بل أكثر من ذلك فإن مجرد نجاح الحكومة في تقديم إنجازات في مناحٍ أخرى مسألة هي في حكم المعجزة أيضاً، لجهة أن مثل هذه الأوضاع الخانقة تقتل الشعوب وتخنق الحكومات والأنظمة بلا شك، ولكن ومع كل هذا أقول إن الجميع يرجون الخير ويتمنون الأفضل. وحسناً فعلت الحكومة أن بشرت في موازنتها الجديدة بحزمة مبشرات، سواء على صعيد تحسين الرواتب وغيره، ولهذا فالمطلوب كذلك تطوير مستوى الخدمات والعون الذي يحظى به المواطن في خدمات التعليم والصحة والعلاج، وكلها شواغل ترهق كواهل الأسر وتؤرقهم.
المواطن البسيط في الريف والحضر لن يكون مشغولاً كثيراً بجدل الأرقام والنسب، هو سينتظر انعكاس المبشرات واللغة الاقتصادية الثقيلة إلى أعمال أمام عينيه وعلى رخاء يحس به في مطبخه ومعاشه بالإجمال، ولذا اعتقد أن المهم في المرحلة المقبلة تحرير حديث الموازنة إلى واقع ووقائع يراها الناس ويلمسونها أمام ناظريهم، وإلى أن يحدث ذلك فدعونا نستقر على تعاطي إيجابي مع المقترحات والأيام بيننا.