"عزمي" في واشنطن وروحو في السودان
تجانى حاج موسى
الشاعر المهاجر “عزمي أحمد خليل” من هواة الهجرة والسفر.. الآن هو مقيم بواشنطن وقبلها طاف معظم الدول العربية والرجل رفيق صبا وزميل دراسة، اقترن اسمه بالفنان الراحل “هاشم ميرغني” والتقينا في أغانٍ عديدة مشحونة بالرومانسية والشجن العجيب.. على سبيل المثال “هسه خايف من فراقك ولما يحصل ببقى كيف.. وعشان أهلك بخليك.. وأريت هواك لي ما انكتب ولا حتى ريدك نزفو..” وأغانٍ عديدة من هذه الشاكلة موزعة بين عدد من الفنانين الذين صدحوا بها منتصف السبعينيات.. الراحل “العاقب محمد حسن” و”أبو عبيدة حسن” و”حمد الريح”.. كنا نتبارى في نظم الغناء ولا يحلو لنا مجلس إلا مع أحبائنا من مغنين وموسيقيين.. في ذلك الزمان كان يسكن أركويت عند بداية تأسيسها لكن حقيقة كان لـ”عزمي” عشرات المنازل بأحياء أم درمان لا سيما منازل أهل الغناء، ولديه عشرات فرش الأسنان والملابس لزوم غيار الصباح للذهاب إلى العمل عند الصباح وفي المساء الذهاب لجامعة القاهرة فرع الخرطوم، التي كانت تعج بمجموعة من الشعراء، الزميل “سعد الدين إبراهيم” و”محمد نجيب محمد علي” و”التجاني سعيد” و”بشرى سليمان”، وأصدقاء كثر من الأدباء الشباب والكُتّاب.. تذكرت تفاصيل عديدة بميلاد العديد من الأغاني الرائعة التي ولدت في ذلك المناخ الأدبي الجميل وكان الأصدقاء من شعراء جامعة الخرطوم يشكلون حضوراً معنا في منتدياتنا، ونشكل حضوراً في منتدياتهم أشهرهم د. “عمر محمود خالد” و”حسن السر” و”أسماء” من نجوم الشعر.. تلك السنوات بحق كانت سنوات الإنتاج الإبداعي في التشكيل، كانت مدرسة الخرطوم ومدرسة الواحد.. وفي الشعر الحديث كانت مجموعة الغابة والصحراء وأبادماك.. وفي المسرح الراحل “حسن عبد المجيد” و”الفاضل سعيد” و”مكي سنادة” وآخرون كثر من كُتّاب المسرح والإخراج والتمثيل من شباب تلك المرحلة.. كان الشاعر المؤلف “هاشم صديق” وكنا نمثل الجيل التالي لمجموعة من المبدعين يضيق المجال لذكرهم جميعاً.. الكبار في المسرح منهم الأساتذة “الفكي عبد الرحمن” و”خالد أبو الروس” و”ميسرة السراج” و”السر قدور” والشاعر المسرحي “إسماعيل خورشيد” و”محجوب سراج” و”عثمان أحمد حسن” ومن ذكرتهم على سبيل المثال.. وفي الشعر أساتذتنا “مبارك المغربي” و”إبراهيم العبادي” و”محمد بشير عتيق” و”عبد الرحمن الريح” وآخرون بالطبع.. في التشكيل أستاذنا “شبرين” و”الصلحي” و”العوام”.. ومن التشكيليين الشباب الراحل “أحمد عبد العال” و”عتيبي”.. تخيلوا معي كيف كنا نعيش ونتنفس ثقافة وفنوناً، ذلك المناخ عشناه ونحن نخطو خطوتنا الأولى في دروب الإبداع، والخرطوم عروس العواصم العربية والأفريقية في كل شيء، لذا أحزن على الجيل الذي أتى بعدنا من المبدعين لأنهم لم ينعموا بما كنا ننعم به.. أعود لصديقي الشاعر “عزمي” الذي يعيش بأمريكا.. لهفي عليه وهو يهاتفنا بصورة منتظمة يجتر تلك الذكريات التي هي زاده الذي يصبره على جحيم البعد عن الوطن والأهل.. أسأله عن أوبته فيمنينا بالحضور لكنه لا يحضر، وأنا على يقين من أن قلبه ومشاعره معلقة بأواصر قوية تربطه بنا وبالوطن.. غنى له “الهادي الجبل” (ما اتعودت أخاف من قبلك إلا معاك حسيت بالخوف)، وغنى له “عثمان مصطفى” (وتزف لينا خبر رفاف قايلنا نقدر نجهلو)، وغنى له “أبو عبيدة حسن” (والله ما رضيناه ليك تغمر الدمعات عينيك)، وملأ الدنيا غناءً جميلاً وذهب يجوب بلاد الدنيا طولاً وعرضاً.. ترى أهو قدر مكتوب عليك مسطور في لوح حياتك!! كنا نجد لك العذر إن دفعت بك الفاقة أو ظلم الزمان.. لكنك مفعم بحبك لنا والوطن.. والدليل بكاؤك وأنت تهاتفنا معزياً في من رحلوا من أحبائك، وفي كل مرة أشفق عليك أن تموت من فرط حزنك على من رحلوا.. لكنها نعمة النسيان هي التي تصبرك على مكاره الغربة أو لعلها الذكريات.. تذكر يوم أرسلت لنا ملاءات أسرّة، يومها غضب الصديق الشاعر “عبد الوهاب هلاوي” وقال: (بالله يا تجاني عزمي ده ما مجنون؟! الناس يرسلوا لأهلهم الدولارات من أمريكا وعزمي يرسل لينا ملايات؟!)، وحين أخبرتك بما قاله “هلاوي” قلت لي: (قول ليهو، الملايات بتعيش كتير والدولارات بتروح سريع، وأنا دايركم كل ما تفرشوا ملاية تتذكروني!!).
ومن طرائف كرمه، كان حينما يأتي ليقضي إجازته مع الأهل حينما كان يعمل بالخليج يذبح خروفاً في منزل أحد أصدقائه ويدعو بقيتهم عشاء في منزل ذلك الصديق.. وظل يلح على صديقه الفنان الراحل “زيدان” ويستعجله لذبح الخروف، و”زيدان” يرجئ الموعد و”عزمي” يلح عليه بصورة مزعجة إلى أن أذن له “زيدان” بإحضار الخروف على مضض.. وذُبح الخروف وتم إعداده على أحسن وجه، وحضر الأصدقاء للعشاء بخروف “عزمي”.. وفجأة أحضر “زيدان” أواني كبيرة مملوءة باللحم وقال لـ”عزمي”: (يلا يا عزمي شيل خروفك وأمشي أكلو في أي مكان إلا بيتنا ده).. (يا زيدان أنت بتهظر؟!).. (لا أنا حلفت بالله الخروف حقك ده ما ناكلوا!!).. (ليه؟ أنا زعلتك في جاجة؟).. (أيوه شابكنا نضبح الخروف متين يا زيدان؟! أقول ليك أصبر الدنيا ما طارت!! تقول لي نضبحوا متين؟! عذبتنا بي خرفانك!! شيل لحمتك).. فأحضر “عزمي” عربة حملت “الحلل”، و”زيدان” يقول له: (ما تنسى بكره الصباح تجيب العدة)، وذهب “عزمي” إلى بانت لصديقه الفنان “أبو عبيدة حسن” ووجد معه مجموعة من أفراد فرقته (يلا انبسطوا جبت ليكم خروف زيدان.. رزقاً تكوس ليهو ورزقاً يكوس ليك)، وبات “عزمي” ليلته مع الفنان “أبو عبيدة” وفي الصباح أحضر (حلل) “ناس زيدان” وتناول الإفطار معه وكأن شيئاً لم يحدث ليلة البارحة.. والله أيام يا زمان والله أيام يا “عزمي”!! متى عودتك إلى دوحة الوطن؟؟ والله مشتاقين.