تداعيات فنية متفرقة
{ قبل وفاة الراحل المقيم زيدان إبراهيم، كانت أعراض المرض تظهر عليه في رمضان الماضي، وكنا نعاوده في مرضه – يرحمه الله – وكان صبوراً على المرض، ولم يشأ أن يطرق أسباب العلاج، وكان وحيداً بالمنزل، عدا بعض الأصدقاء والموسيقيين من فرقته و”ناصر” الوفي الذي يرعى شؤونه ويقود له سيارته منذ سنوات، والأخ السر شابو والصديق حسن صالح وصديقه الوفي د. علاء الدين الأستاذ بجامعة الشيخ زايد بـ (أبو ظبي)، والموسيقي صديقه زكي، والموسيقي كردفاني.. وقال لي زيدان: (الله يستر يا صديقي ما أكمل معاكم السنة دي)؟! وقد صدق حدسه لم يكمل العام ورحل عنا، قالها ليلة تكريمي وتدشين الطبعة الثالثة من ديواني (تباريح الهوى) بعد أن أدى أغنية واحدة من أغنياتي التي نظمتها له (قصر الشوق)، وجسده الهزيل ملسوع بحمى يلحظها من يلمس جسمه، قلت له: لماذا أتيت وأنت مريض؟! رد عليّ: (يوم تكريمك ما أجي يا صديقي.. والله لو بقدر كنت غنيت كل أغنياتك)!! وودعنا ولم يكمل الحفل.
لماذا أكتب هذه الشهادة لكم؟ أكتبها لأنه فنان من بلادي، سكب عصارة موهبته الغنائية واللحنية ليسعد ملايين المحبين لغنائه من أهل بلادي، ولأنه أدرك منذ زمن بعيد أنه خلق لإسعاد الناس، لذلك خرجت الملايين من أهل السودان يشيعونه ويدعون له بالرحمة.
أكتب هذه الشهادة لأنه غادر هذه الدنيا فقيراً معدماً إلا من محبة الملايين من عشاق فنه، وأشهد (للعندليب الأسمر) أنه لم يكن يفاصل في أجر غنائه، وقد كان من الممكن أن يرفع ذلك الأجر إلى أعلى قيمة مالية، فكم من حفلات عديدة أقامها ودفع تكاليف تلك الحفلات والكثيرون يشهدون له بذلك، وأذكر في سبعينيات القرن الماضي حينما كان يسكن بحي العباسية محطة سنادة مستأجراً لمنزل بسيط من الجالوص آيلاً للسقوط، وكان البعض يحسبه منزله بالمِلك لطول إقامته في ذلك المنزل.. طلبت مني المرحومة والدته أم الحسين (التوأم)، أن أتحدث معه ليشتري المنزل لأن الملاك الورثة له عرضوه عليها للبيع، وبالفعل تحدثت معه، وأفضت في الحديث عن الدفوع الموضوعية التي تبرر شراءه للمنزل غير أنه ألقمني حجراً ورد عليَّ: (البيت.. بيت الآخرة يا صديقي)!! ثم رفع لحاف سريره ليريني مالاً وفيراً كان حصيلة رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها مشاركاً زملاءه الفنانين الذين يقيمون حفلات ساهرة في عواصم الولايات بواسطة متعهدي حفلات. ولم تمضِ أيام قليلة إلا وقد كان قد أنفق ذلك المال على الفقراء والمساكين الذين كان يحبهم ويزورهم في منازلهم البسيطة والفقيرة ويدرك تماماً احتياجاتهم.. بعدها باع الورثة ذلك المنزل وتلكأ في الخروج منه إلا بحكم قضائي بدعوى أقامها أصحاب العقار، ولحسن الحظ كان قد أشترى عقاراً بالشقلة الحاج يوسف – عشوائياً كان وقتها – وقد بنى به غرفتين سكن فيه هو وأمه يرحمهما الله، وحتى هذا المنزل الذي آل لورثته كان يحدثني مراراً وتكراراً بأنه يود أن يوقفه داراً للعجزة والمسنين الذين لا دور لهم أو أهل، وكنت أثنيه عن تنفيذ تلك الرغبة قيقول: (يا أخي ما تساعدني في إجراءات الوقف عشان يكون لي صدقة.. يا أخي أنا ما قدمت للشعب السوداني شيئاً.. ما أخلي ليهم البيت ده وهو ذاتو ما قدر مقام الشعب العظيم)!! لله درك أيها الصديق!! سلوكك هذا يشبه سلوك الزاهدين.
{ من أعلام الغناء السوداني الشاعر “حسن سر الختم الخليفة”، وهو ناظم أغنية (بخاف) التي لحنها وأداها أبو عركي البخيت، ويقول في بعضها:
بخاف أسأل عليك الناس
وسر الريدة بينا يذيع
وأخاف أكتر
كمان يا غالي.. من إيديا
أنت تضيع
وأعيش بعدك.. حياتي جفاف
مواسم بينا ما في ربيع
وقد ولد هذا الشاعر الكبير بحي الموردة في بداية خمسينيات القرن الماضي، وتدرج في دراسته وتخرج في كلية الآداب جامعة الخرطوم قسم الترجمة، ولعب كرة القدم لنادي أبو عنجة، غير أن الدراسة أبعدته عن الميادين الخضراء. ثم هاجر إلى المملكة السعودية بعد سنوات قليلة من تخرجه ليعمل مترجماً هناك.
“حسن” شعره رصين وعميق يكتب الشعر فصيحه ودارجيته، وهو من مؤسسي (منتدى الحروف) الذي استمر لسنوات متنقلاً في مقار وأعضاؤه من الشعراء والموسيقيين والصحفيين والأدباء.
أغنية (بخاف) قدمت حسن السر كشاعر شاب مجيد، وبرغم أن عدد الأغنيات التي ألفها قليلة بسبب عزوفه عن الأضواء وهجرته المبكرة، إلا أن ما أنتج من أغنيات يفوق حد الوصف، قدم للهادي الجبل، (أنا كنت قبلك لا غريب.. ولا كنت عارف لي دار)، وقدم الشاعر الصديق المهاجر للهادي، أغنية: (ما أتعودت أخاف من قبلك إلا معاك حسيت بالخوف).. وكل تلك الأغنيات وغيرها خرجت من (منتدى الحروف)، الشيء الذي يؤكد أهمية تلك المنتديات وما تقوم به من نشاط في الشأن الثقافي. و(حسن السر) جمعته صداقات حميمة مع (أبو عركي البخيت) نتج عن تلك الصداقة عدد من الأغنيات الجميلة، كما ربطته علاقة صداقة مع الفنان الراحل خليل إسماعيل الذي قدم لحسن السر أغنية (فرح المواعيد).
ولو تمعن القارئ في أشعار حسن السر، يستطيع أن يرسم ملامح شخصيته الإنسانية والأدبية الرقيقة الخجولة الحساسة، ودونكم هذا المقطع الذي يحكي قصة حبه العذري لإحدى حسان حي الموردة (بخاف يا أنت لو جيتك.. يقولوا علي حبيتك.. وأخاف لو برضي غبت عليك.. تقول ناسيك وجافيتك).. الخ النص الشعري الجميل.. رد الله غربتك أيها الشاعر الجميل.
{ الشاعر المجيد عبد الرحمن مكاوي.. أين أنت أيها الصديق؟ أعلم أنك متقاعد للمعاش، وتسكن حي الحاج يوسف، وأعلم أنك احتسبت رفيقة دربك، لكن الذي أعلمه علم اليقين أنك شاعر مجيد وأغنياتك التي صدح بها الفنان (حمد الريح) تنبئ عن ذلك، ورائعتك (بريدك يا شقا الأيام كان بيك الفؤاد يسعد..) تلك الأغنية الرائعة التي وضع لها لحناً رائعاً الفنان يوسف السماني، (فردة الثنائي الوطني) وأداء الراحل مصطفى سيد أحمد. أخرج من صدمتك وأحزانك يا مكاوي، وننتظر منك غناءك الجميل الذي سمعناه ولازلنا نطرب له.
{ يرحمك الله والدة البلابل:
غيِّب الموت والدة المطربات (هادية وآمال وحياة طلسم)، نسأل الله أن يتغمدها برحمته. والراحلة من السيدات السودانيات المستنيرات، فقد دعمت وشجعت بناتها وهن في ميعة الصبا تلميذات بالمرحلة المتوسطة لممارسة فن الغناء لإشباع هوايتهن، هي وزوجها الأستاذ طلسم بفهمهما العميق لدور الفنون للمجتمعات، وظلت تقدم دعمها ورعايتها لهن حتى تخرجن من معهد الموسيقى، فأصبحن نجمات يغنين الغناء الجميل، ووجد فيهن الموسيقار الكبير (بشير عباس) خامة طيبة فمنحهن معظم ألحانه التي رددتها الجماهير. رحمها الله والتعازي لأسرة طلسم في فقدهن الجلل.