متعشم
كنت في (شندي) واستوقف رجل مسن أحد السائرين معي وتهامسا؛ فتقدمت عنهما قليلاً لأمنحهما شيئاً من الخصوصية؛ ثم لحق بي مرافقي ولم أسأله، إذ اعتبرت الأمر شأناً لا يخصني، ولكن مرافقنا الثالث كان مثل الذي لم يطق صبراً مع من علمه فقال متسائلاً: (الزول دا مالو) فأجاب المسؤول (متعشم)! وهي مفردة تعني شحاذ! أكبرت والله هذا الخلق الشعبي في تلطيف الكلمة من متسول إلي متعشم؛ أعجبني التعبير ودلالته الحافظة للحياء والكرامة.. شعب رائع فهذا من تمام حسن الخلق والتدين وهو طبع لا يزال حاضراً في الريف وبقوة، عكس المدن التي خالطت الأنفس فيها، وإن كانت مدن الولايات بذات بعض نقاء أهلها كما هو مكان المثال الذي ضربت.
يقول صاحب أضواء البيان في إيضاح القرآن السائل: الفقير والمحتاج، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله: (ووجدك عائلاً فأغنى) أي: فكما أغناك الله وبدون سؤال فإذا أتاك سائل فلا تنهره، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن. ومعلوم أن الجواب بلطف، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل، وكان – صلى الله عليه وسلم – إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعداً حسناً لحين ميسرة مع التنبيه بعدم (نهر) صاحب الحاجة. ويقول المفسرون في بعض أوجه قوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر)، أنّ المعنى يشمل الفقير علميّاً والفقير ماديّاً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين وهكذا فإن استخدامات السودانيين لعبارة (متعشم) عوضاً عن سائل أو طالب حاجة، تعتبر عندي من أعلى مقامات التأدب والعطاء، وإن لمن يمنح السائل شيئاً فيكفيه هذا الستر الجميل.
هذا التهذيب في القول والبيان وددت لو أنه تدرج وانتقل لكثير من نواحي الحياة، انظروا الآن ما يجري من تهارش وعراك لفظي يتجاوز حدود اللباقة في الخلافات الرياضية، هذا وضع يغري بتعقيد المشكل وتأزيم المواقف كما قلنا غير مرة، إذ لم يعد لحكيم صوت أو كبير اعتبار، ومثله في جوانب أخرى تحتاج للتحلي بخلق السودانيين في السماحة والترفع، وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي ألحظ كثيراً شططاً في التعليقات وروحاً عدائية تتمثل كثيراً في الاحتفاء بأخبار المصائب وسرعة تداولها، وهذا توجه عجيب وشاذ ولا يتسق مع الطبيعة الفطرية لهذا الشعب المجبول على التسامح والهدوء.
أعتقد أن تفكيك معاني ودلالات كثيرة في العامية السودانية ستعزز أن هذا الشعب متدين تديناً حقيقياً وفطرياً وبسيطاً، جمع فيه كل قواعد الإيمان والإسلام الصحيح فصارت له علامات ترشده وترشد السائرين معه، إني جد معجب ومسرور، لكلمة قد يكون كثيراً منا قد سمعها ولم يتوقف عند معناها، ودلالة المعنى النبيل الوقور.