من وحي الأخبار

ماشين في السكة نمد

مما حكاه الصديق العزيز الأستاذ “محمد محمد خير” الكاتب الصحفي والإعلامي المعروف أنه في بدايات سني عودته للبلاد من كندا حدث أن زار في إحدى إجازاته السنوية شقيقته بمنطقة الكلاكلة، ومثل عادة أي سوداني ومغترب فإنه نقد أحد الصغار بالمنزل جعلاً يسيراً من المال كهدية ثم ذهب الصغير إلى ملاعبه مع أقرانه فضاع ما حصل عليه فأتى حزيناً إلى خاله الذي عرف ما حدث فاستفسره: بعد أن فقدت قروشك ماذا ستفعل؟ فقال الصبي- يقول “محمد خير”- لم أفعل شيئاً فقد ضاع و(احتسبته). ويقول محدثي إنه وقف على تلك الكلمة لأنها عززت عنده أن الإنقاذ رسخت وكانت في بدايات مدها التأصيلي لمفردات خطابها السياسي والاجتماعي؛ ويقول “محمد خير” إن استخدام طفل لتلك المفردة بتلك اليقينية استوقفه كثيراً.. تذكرت هذا الحديث وأنا ألاحظ على ماكينة الصراف الآلي لأحد البنوك الذي طرح مشروعاً جديداً لتلك الخدمة واسع النطاق؛ أن مفتتح لوحة الإجراء قد زين بعد التحيات الطيبات والسلام بعبارة (ماشين في الشبكة نمد) وإن كنت قرأته كما حفظته في (السكة نمد) وإن لم يكتمل النص بنكياً كما ورد في أصله الرامز (شايفنك ماشي تسد وردية يا قاسم أمين) وهو القيادي العمالي الشيوعي كما معروف حيث رثي بذلك.
بدت لي المفارقة من مثال (احتساب) الطفلة إلى صرافة البنك وكأنما (ملهمات) الإنقاذ تضاءلت فاستعاض البنك بمأثورات أدبيات الحزب الشيوعي وليس في ذلك ضير، إذ اعتقد به نصوصاً دافئة، كما أنه فتح أمامي الطريق نحو فحص تربة الخطاب العام للقوى السياسية والمجتمعية وأزعم أنها تتداخل فيها الفصول والنصوص، فمن خلال رصدي لكثير من الأنشطة والمخاطبات بدا لي أن ثمة لغة إنقاذية في ثنايا النصوص وروحها، وصحيح أنها لا تبدأ بالكامل لتكون نسخة من خطاب الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، لكني لحظت مثلاً أن التخاطب بين الأقران والرفاق حتى في المكاتبات ما كانت تسمى (بالأخ)، وندر أن تجد جهة تقول الرفيق أو الكمرد إلا اضطراراً، إلا أنني كذلك أشهد أن لحزب الأمة وجماعة الأنصار تشدداً في التمسك بلفظة الحبيب.
كان “النميري” مثلاً يكثر من المواطنين الثوار الأحرار، و”البشير” يقول الكرام الشرفاء، ولا أعرف أو أذكر ما يقول “الصادق المهدي” فالرجل كان كثير الخطابات الطويلة لدرجة أن ذاكرتي لم تحفظ منها شيئاً رغم أني عاصرت “النميري” طفلاً و”المهدي” صبياً يعي، وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى دراسة أظن أنها يمكن أن تقايس بكثير بين الجماعات من حيث اللغة والتعبيرات ثم الدلالات، والأهم من هذا مستوى الخلود والعيش في الفضاء الشعبي العريض الذي أعتقد وبعودة لمبتدأ حديثي أن لليسار فيه سبقاً وحضوراً وارتكازاً راسخاً، هذا بالطبع بغض النظر عن حال الحزب نفسه وتجربته السياسية والنضالية بين الحكم والمعارضة، لكن تبقى الأمانة أنه له شعراء وأشعار خلدت ولا تزال تعيش بدليل أن الناس يذكرون الآن القصيدة التي ترثي وتمجد “قاسم أمين”، وربما لا يعرف السائرون بالنص من “قاسم” هذا ومن هو “أمين”؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية