النشوف اخرتا
أصداء الجانب الآخر من المشهد
سعد الدين ابراهيم
تعجبني جداً الكتابات الجريئة في معقولية، والتي تتصدى للمسكوت عنه.. من أولئك تقرير بنتنا الشاطرة، لولا مريخيتها ، “سعدية إلياس” في الأنيقة (المجهر السياسي) الأسبوع الفائت، أعقبتها قبل أيام “محاسن عبد الله” في (السوداني) بتقرير عن ذات الظاهرة.. عن تحرش النساء بالرجال.. فقد انصبت الكتابات على تحرش الرجال بالنساء وبالذات كبار السن.. حتى أصبحنا (نتضاير) في المركبات و(نتكرفس) حتى لا نتهم.. أعادني تقريرها إلى منتصف السبعينيات في القرن الماضي عندما كنا طلاباً في قسم (الدراسات الاجتماعية والفلسفية) بجامعة القاهرة بالخرطوم.. واستأذنا الجميل الدكتور “الفاروق زكي يونس” يطلب منا عمل بحوث في بعض الظواهر الاجتماعية. وكان الطلاب عادة يختارون الظواهر السهلة مثل التسول .. والتشرد.. وماسحي الأحذية والمشاكل الأسرية.. مثل الطلاق.. وانحراف الأبناء وهروب الطلاب من المدارس.. فاخترت موضوع التحرش في المواصلات (واياميها) مع الاعتذار لبروف “شمو” الذي أصبحت عبارة (اياميها) من مفرداته الراتبة.. كانت المواصلات مزدحمة جداً خاصة بعض الخطوط.. وعندما حدثت الدكتور بموضوعي أشاد بالفكرة، لكنه أكد صعوبتها في أنك لا تستطيع محاورة أفراد العينة الذين يمارسون هذه الظاهرة، ورغم أنه قرر فشل الدراسة في مثل مجتمعنا المحافظ هذا.. إلا أنه أوصاني بأن أشارك زميلاً معي في رصد الظاهرة.. وطرحت ذلك على زميلنا النابه “بابكر محمد بابكر” الذي عمل فيما بعد بجهاز الأمن المايوي والآن يعمل في صحيفة (أخبار اليوم) إدارياً.. المهم وافق “بابكر” وقسمنا الرصد هو في منطقة بحري حيث يسكن مع اختيار أماكن الكثافة السكانية .. وأنا في أم درمان..
فعلاً رصدت الظاهرة كمراقب فقط.. فوجدت انتشار الظاهرة.. لكن ما لفت نظري حالات رغم ندرتها تتم من قبل النساء خاصة بعض المراهقات اللائي يسعين بجرأة للتحرش.. لاحظت متحرشاً راتباً في مواصلات واحدة من المناطق، واستهدفته، لأنني وجدت أنه كأنما يركب المواصلات خصيصاً لإشباع رغبته فتابعته بعد أن نزل من (الباص)، في البدء تشكك في نواياي وضاربني عديل لأنني أراقبه لكنني احتملت وكنت ملحاً عليه وأريته بطاقتي وأوضحت له سرية الأمر.. وأنني لا أتعامل معه كشخص شاذ.. إنما كشخص اعتاد على ذلك وأدمنه.. فاستجاب لي.. دخلت منزله وهو (عزابي).. وبيته أنيق في بساطة.. عرفت أنه مطلق وذكر لي أنه أدمن هذه العادة منذ أن كان طالباً بدولة شقيقة يعتبر فيها التحرش في المواصلات عادياً، ولما آنس فيني الصدق انفتح.. فأكد لي أنه مرات يتم التجاوب معه بأكثر مما يتوقع، والعجيب أنه لا يتمادى في طلب اللقاء يكتفي فقط بالتحرش، بل ذهب إلى أبعد من ذلك أن بعضهن كن يعرفن مقاصده فيتحن له الفرصة للتحرش.
إذن فالظاهرة فعلاً تحتاج إلى النظر إليها من باب أن التحرش ليس قاصراً على الرجال بل تمارسه النساء ولو بدرجة أقل.. قال لي الدكتور إن البحث جيد جداً ولكن عليّ إكماله بسؤال متحرشة مثلما فعلت مع الرجل، واستعصى علينا ذلك جداً.