خربشات الجمعة
عندما كان لمنصب الحكومة بريق ومن أجله تضرب أكباد الإبل سفراً لتهنئة المعين.. وتتشابه أسماء بعض السودانيين حد التطابق.. وكان وقتها السودان موحداً ويشكل الجنوبيين مكوناً هاماً بسحناتهم المميزة.. بقاماتهم الفارعة وأجسادهم المتسقة ليس بينهم صاحب (الكرش) الكبيرة ولا المرأة التي تمشي الهويني.. نساء الدينكا، على سبيل المثال ،من أجمل نساء الأرض.. وكذلك النوير بوشمهم المعروف على الوجوه.. كان الجنوبيون أكثر ارتباطاً بالعسكريين الذين عرفوهم في الاستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل.. وضابط القوات المسلحة يمثلون رسلاً لقومية البلاد، وأسهموا إنسانياً في بقاء البلاد موحدة ، كانوا رؤوفينً ورحماءً بالجنوبيين، رغم إن الجنوبيين، في الفترة الأخيرة ، أصبحوا-في الغالب- يحبون “الطيب مصطفى”، وما يكتبه من نقد لاذع وهجوم عليهم.
في أيام الإنقاذ الناضرات والعسكريين يتم تعيينهم في مناصب الولاة، مثلما هم اليوم حيث بلغ عددهم اثنين في دارفور، المهندس “عبد الواحد يوسف” والعقيد “أنس عمر” ،واثنين في كردفان اللواء “عيسى آدم أبكر” ومولانا “أحمد هارون” الذي هو أقرب إلى المؤسسة العسكرية رغم ثقافته السياسية الرفيعة.. والخرطوم والبحر الأحمر.. المهم قد عين الفريق “فاروق محمد نور” والياً على كسلا ، وهو من ضباط القوات المسلحة المميزين جداً رغم مريخيته التي أفسدت عليه الكثير.. جاء تعيينه مساءً ضمن عشرات الولاة في ذلك الوقت واختلط على بعض القيادات الجنوبية ما بين “فاروق علي محمد” رئيس هيئة الأركان للعمليات ببشرته البيضاء، وقلبه الأكثر بياضاً.. وما بين “فاروق محمد نور” الوالي.. ظن أغلب الناس إن رئيس أركان العمليات قد عين والياً على كسلا، التي تعاني (أمنياً) من خروقات قوات جبهة الشرق والأسود الحرة ،التي يقودها “مبروك مبارك سليم”.. و”باقان أموم” و”عبد العزيز الحلو” ، حملهم “سليمان علي بيتاي” حتى خلاوي همشكوريب لتحرير السودان.. وظن الكثيرين أن الحكومة اختارت أصلب عناصرها العسكرية ليقود الشرق تنفيذياً ويقود العمليات ميدانياً.. خف إلى منزل الفريق “فاروق علي محمد” عشرات الرجال والنساء، وكان حينها خارج ولاية الخرطوم في مهمة عسكرية.. يحملون على ظهور البكاسي الخراف البيضاء وجوالات السكر.. والدقيق وعلب الحلوى، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه.. وحدائق المنزل قد غطاها قطيع خراف (كرامة) احتفاءً بتعيين الفريق “فاروق”.. الذي عاد لمنزله ليلاً ووجد أسرته في حيرة من أمرها.. وقد أصبح المنزل مثل سوق المواشي في المويلح تنبعث منه أصوات البهائم وروائحها.. وجوالات السكر تكفي لافتتاح بقالة بسوق العمارات.. هاتف الفريق “فاروق” الوالي “فاروق” ،طالباً منه إرسال سيارات لنقل الخراف والسكر من منزل الجنرال “فاروق علي محمد” إلى منزل اللواء “فاروق حسن محمد نور”.. ولا يعرف حتى الآن هل قطيع الضان الذي يملكه الجنرال ” فاروق” من بقايا ومخلفات ذلك التعيين الذي التبس على الناس أم هي من كفاح الرجل الزاهد في التجارة قليل الكلام!!
السجون لا تخضع الرجال ولا تلين من عزائمهم خاصة السياسيين والهمباتة في البادية.. وقيل أن لسجن (دبك) في شمال بحري بوابة قصيرة يعبر من خلالها الرجال خاضعين ذليلين، ولكن د.”حسن الترابي” ، وهو السياسي الذي لا تهزمه المواقف الصحية ولا يعرف قلبه الخوف يبتسم في وجه السجان.. وحينما قرر أبناؤه وضعه في غياهب السجن، اختاروا أكثر الضباط صرامة فأصبح مشهوراً بأنه الضابط الذي أعتقل “الترابي”.. ولاحقاً أصبح وزيراً ومعتمداً وقيادياً في نادي المريخ.. وقيل إن “الطيب ود ضحوية” الهمباتي الشهير وأحد أشهر شعراء البادية منحه “الطيب صالح” شهادة بجودة الشعر.. و”الطيب صالح” ضنين بشهادته لصالح الآخرين، لكنه في كتاب بندر شاه.. قال عن “الطيب ود ضحوية” إنه شاعر من بادية البطانة في شرق السودان ،أشعر من “جرير” وأشعر من “الفرزدق” حينما يقول:
الدرب انشحط واللوس جبالو اتناطن
والبندر فوانيسو البوقدن ماتن
بنوت مضاليم الهوى البنجاطن
أسرع فودع أمسيت والمواعيد فاتن
ثم القبض على “الطيب ود ضحوية” وكبلت يداه بالحديد ذليلاً مسوقاً إلى السجن بواسطة رجال الشرطة للكاملين، ولكنه يصف نفسه وهو في تلك الحالة ولا يتسرب لقلبه الخوف والجزع وهو يقول:
يا شايل أم شليخ قول ليها مذلولين
وسايقنا العسكري متوجهين كاملين
كلبش يا حرس وأمكن حديد زين
صنديد يا “عمر” ما تقول دا قلبو بلين
ولم تقهر السجون رغم بشاعتها همباتي آخر من بادية دار حامد في غرب السودان يدعي “تيراب” قتل خمسة من الرجال كانوا يتعقبونه في إحدى غاراته على الإبل في البادية وتم القبض عليه وسجن في مدينة الدلنج.. ومن سجنه تسرب شريط دوبيتي في ثمانينات القرن الماضي انتشر وسط سائقي اللواري السفرية وغرب البادية في كردفان ويقول عن نفسه في السجن وهو يخاطب محبوبته التي تدعي “آمنة” وغالباً مثل هذه المرأة هي التي تلهم الهمباتة، الشعر وحب المغامرة وارتياد المخاطر، فيغدقون عليها المال.. فقال مخاطباً محبوبته من وراء القيود وسلاسل الحديد:
لو شفتينا يا “آمنة” من ظهراً كبير قام اليهود لتمامنا.
ما بنموت لو اليوم بقى ما يومنا..
وما بنفذ حتى سمحات القبيلة تلومنا..
و”تيراب” في سجنه يصف السجان بأنه يهودي ،وهو أكثر يقيناً بأن الإنسان يموت حينما تنتهي أيامه في الدنيا وإن الحكم الصادر بإعدامه شنقاً حتى الموت ربما يموت قبله أو يخرج مرة أخرى من السجون، ولكنه يجزم بأن حب الحياة لن يجعله يهرب من السجون ،لأن الهروب عار وفضيحة وأمثاله يخاف العار ولا يجلب لقبيلته صفة ذميمة كالهروب من الموت أو السجن!!
(3)
كثير من القادة السياسيين يكتبون الشعر في أغراضه المختلفة من مدح ورثاء وشعر عاطفي في الحسان، ولكن أغلب الساسة يؤثرون الاحتفاظ بأشعارهم سراً لا يفصحون عنها إلا للخاصة جداً.. وبعض رؤساء العالم الثالث الذين يحكمون شعوبهم لسنوات طويلة يفعلون في شعوبهم ما شاء لهم.. ويزين لهم بطانة الخير عندهم وبطانة السوء عند شعوبهم ،إن لهؤلاء الرؤساء مواهب غير الحكم والقتل والسجن.. فيحملونهم على ركوب الصعاب، بل ينوب بعض المثقفين الانتهازية عن الحكام في كتابة الكتب والأشعار (ويبيعونها) للحكام سراً ويباهون بها في مجالسهم الخاصة وهم بذلك مثل الرجل أو المرأة التي تبيع ملابسها الداخلية.. كان “القذافي” مفكراً يكتب النظرية العالمية الثالثة وشاعراً ينظم القريض وموسيقى وفنان ومشجع لكرة القدم، وقد انتهى به الأمر مقبوضاً في ماسورة صرف صحي، بعد أن ضاقت عليه الدنيا بوسعها وقتل بطريقة جعلت ضحاياه يتعاطفون معه.. و”صدام حسين” الذي هدد أمريكا بالحرق وعذاب القبر ورمي إسرائيل في البحر، وتحرير البلدان العربية من الكويت حتى المغرب، أدعى لنفسه كتابة القصة القصيرة وتأليف الأناشيد التي أرغم الطلاب على حفظها.. وفي النهاية قبض متخفياً في حفرة بباطن الأرض!! وهناك رؤساء وسياسيون أدباء حقيقيون مثل “ليوبولد سنغور” و”أحمد بن بيلا” في الجزائر و”الشريف زين العابدين الهندي” في السودان والذي كتب أعذب الشعر وأرقه.. وقد عاب سياسي وأديب ومفكر الدكتور “فضل الله علي فضل الله علي الشريف زين العابدين” الانشغال بالشعر على حساب المسؤوليات التنفيذية ، حينما كان “الشريف” وزيراً للخارجية، فقال “فضل الله” ،رحمة الله عليه: أخي “الشريف” أنت رجل قوافي وجمال ولكن أركبك الزمان سرج السياسة المعوج، فأخذت ترسل صدر البيت وتعجز عن إتمام عجزه.
لكن “الشريف” بنداوة الحرف قيل إنه من كتب سراً أغنية حبات القلوب وأهداها للشاعر “عوض جبريل” والتي يقول مطلعها..
القلوب الشايلة ريدك أعرفه
والعيون الباكية منك أنصفه
يا جميل يكفينا من هجرك كفى
والوفا الراجينو منك وفا..
وفي بلاط الدبلوماسية فاضت مشاعر سفراء المشروع الحضاري وخذلتهم رقتهم في حضرة جمال وأناقة وعطر امرأة من بلاد شنقيط جاءت لبلادنا وزيرة وعادت أميرة يتغني بها عشاق النيل والصحراء.. ولو كان “أبو كلابيش” الرجل المتصالح مع نفسه، الصادق مع الآخرين حضوراً في لقاء الدهشة بين حسناء موريتانيا وسفراء السودان العاشقين لكتب جهراً ما يفيض بجوانحه وهو القائل في سنوات الصبا..
البراق برق من المشبك غادي
الموسيقى ضرب مرقت عناق الوادي
الزول القطعو ذي تفصيلة العراقي
غطيني أنوم مرض الحبيب ما بعادي
وكل جمعة وأنتم بخير