د. "راشد دياب" في حوار عن الثقافة والسياسة والحوار الوطني
الأحزاب التاريخية دورها انتهى في مرحلة معينة
لا توجد أحزاب تحمل تصوراً ثقافياً لخدمة القضية السودانية
حوار- محمد إبراهيم الحاج
رغم الجهد الثقافي والفني الكبير الذي يقوم به د. “راشد دياب” بعد عودته للبلاد من أوروبا التي درس بجامعاتها الفلسفة ونال منها درجة الدكتوراه، بالإضافة إلى ذيوعه كفنان تشكيلي توضع لوحاته الفنية في كبريات المتاحف الأوروبية، رغم ذلك إلا أنه يظل مهموماً بحركة إصحاح الفكر البيئي والثقافي كثيراً، ودائماً ما يوجه خطاباً شديد اللهجة لكثير من السلوكيات المحلية المرتبطة بالعقل الجمعي وبالسياسات الحكومية المتعلقة بالفكر الثقافي.
د. “راشد” لأول مرة يشارك في فعالية تنظمها الحكومة وهي مؤتمر الحوار الوطني بوصفه إحدى الشخصيات القومية، وهو رجل مهموم بقضايا فكرية وثقافية يعتقد أن بحلها يمكن أن تحل كثير من قضايا البلاد.
(المجهر) جلست إلى د. “راشد دياب” في حوار مطول عن الحوار الوطني وقدرة الثقافة على تذويب خلافات المتحاورين وعن السياسة والأحزاب السياسية، وكان كعهده جريئاً في قول رأيه.. فإلى ثناياه..
{ بداية د. “راشد”.. ما هي دواعي البحث عن الهوية والتكوين الثقافي في مؤتمر الحوار الوطني؟
_ أولاً نحن دائماً ما نقع في شراك حبائلها.. يسنها أناس لديهم قدرات عقلية أكبر منا، وهذه القدرات موجهة لخدمة شعوب بطريقة معينة لديها إحساس بالتفوق العرقي والذهني والمادي، وفعلاً عن طريق هذه المطبات نغرق في (شبر موية).. وفكرة الهوية والثقافة لها علاقة كبيرة بفكرة الانتماء للوطن، والسودنة والروح السيادية للسودانيين جاءت بعد الاستقلال لأنهم كانوا مغيبين من وجودهم الحضاري والإنساني.. والغريبة هذا لم يكن حقيقياً لأن الإنجليز كانوا يحترمون الثقافات المحلية ولم يكن هناك إعلان مباشر ضد التطور الديني أو الحركة الفكرية، وكوننا نبحث عن الهوية بعد نحو (60) عاماً من الاستقلال فهذا أمر فيه خطة يجب أن نستوعبها جيداً، وهذه دائرة مغلقة ليست لها علاقة بالتغييرات المتسارعة التي تحدث في العالم من حولنا.
{ إذن كيف نبحث عن أنفسنا بعد كل هذه السنوات؟
_ نحن غير محتاجين أن نبحث عن أنفسنا، ولسنا محتاجين أن نكتشف أنفسنا ولسنا بحاجة إلى من يقرر لنا هل نحن عرب أم أفارقة.. كل هذه الأشياء تعدّ نوعاً من الترف الفكري يطرح لأجل مفاهيم فلسفية أو دراسات فسيولوجية، وفي الإصلاح السياسي يجب أن لا يغرقونا في متاهات الهوية كوحدة قائمة بذاتها منفصلة عن الثقافة تماماً.. الهوية هي علاقة مبهمة بالتاريخ، مرتبطة بالإنسان في مساحة معينة وفي زمن تاريخي معين وتحكم صفته ووجوده بهذه المنطقة، وهذه المساحة تحكم عليه تصوراً عقلياً معيناً لوجوده في الحياة وتتيح لكيان إنساني له قيمة في ذاته في المحتوي داخل هذه المساحة وهي خاصة به، ولا يحق لأي إنسان أن يمس جزءاً من جوانبها، وأن يتركها كما هي كثقافة قائمة في ذاتها.
{ وهل حدث ذلك في بلادنا؟
_ المشكلة الوحيدة التي كانت في السودان هي التيارات الكبيرة.. السودان زي البحر.. السمك الكبير يأكل السمك الصغير.. وهذه تيارات ضخمة تجري في المجوعات الصغيرة ذات المقاومة الضعيفة وتحتاج إلى حماية.
{ ما هو دور الهوية والثقافة في تذويب الفوارق بين كل التيارات المتصارعة.. وحفظ حقوق التيارات الصغيرة.. ولماذا وضع الحوار القومي الحالي أمر الهوية والثقافة من العناصر الأساسية؟
_ البحث في الثقافة والهوية، هناك عشرات من البحوث، وهناك الاستمتاع بالثقافة كبحث وهناك الدراسات الأكاديمية كبحث، لكن البحث لتحول الثقافة من جهة لجهة أخرى وتخلق منها كائناً مختلفاً فهذا أمر صعب في حوار مثل هذا.. والثقافة الغرض الأساسي منها في الحوار الوطني هو أن تكون الثقافة كأولوية لتفكير الإنسان والثقافة هي الرؤية الذهنية.. مثلاً أنت لديك تفكير برؤية لتحويل حياة إلى حياة أفضل لهذا يجب أن تكون الثقافة هي الباعث الحقيقي لحركة الوجود الإنساني في المرحلة القادمة.. بمعنى يجب أن لا يعمل أي مشروع أو أي شيء آخر بدون ثقافة، ويجب أن لا تكون الثقافة شيئاً سطحياً لآخر سطحي.. وأن لا تكون شيئاً ظاهرياً لآخر ظاهري.. يعني أي إنجازات “تتعمل بسرعة” لا تعدّ عملاً ثقافياً.. الثقافة هي التعبير الحقيقي عن حالة نفسية، وهي التعبير عن الوجود البشري، وهي إنجاز مشروع محدد لكن عندما تفعله مجزأ أو تختار شخصاً غير مؤهل، فهذا الأمر غير ثقافي.
{ لماذا؟
_ لأن الثقافة في النهاية هي المحقق الطبيعي للمؤسسية، وهي التي تحمي المؤسسية، وهي التي تحدد الحقوق والواجبات وتجبر الفرد على احترام المؤسسة، والمؤسسة نفسها تحترم المواطن، ويصبح إزاء ذلك نبعين يمنحان إشارات ثقافية، الأولى هي المؤسسة والإنسان.. وفي النهاية النقد ليس عيباً.. وإذا كانت هناك مؤسسية يتم قبوله لأنه غير موجه لأشخاص وإنما لمؤسسات.. وعندما تدافع المؤسسة عن نفسها تدافع عن الشعب ذاته لأنها ذراع الشعب.
{ أنت تتكلم عن نظام اجتماعي أو سياسي في دول متقدمة خطت خطوات بعيدة في عملها المؤسسي.. بالمقابل نحن ما زلنا نتحسس بداياتنا؟
_ نحن من أسسناها في العالم، ونحن من وضع نظام المؤسسية والشورى، لكن هم جاءوا بعد ذلك وأدخلوا فيه النظام الإنجليزي القائم على الأفندية والتعليم وفصل الطبقات والطبقات ذات الامتيازات الخاصة والطبقة البسيطة، ثم ألغى الإدارة الأهلية التي كانت مؤسسية قائمة على المستوى الأهلي، وهو القرار الذي اتخذ بالحالة النفسية وبفكر وبدون قوة وبالتصور الداخلي.. نحن لدينا مشكلة أن معظم الأحزاب التي نشأت لدينا نشأت بمفاهيم مستوردة، مثلاً الشيوعي جاء من روسيا، والبعثي جاء من العراق، والإخوان من مصر.. كل هذه الأحزاب جاءت مستوردة، لأن دراسة الفلسفة السودانية كانت صعبة للغاية كيما تخلق حزباً سياسياً سودانياً، وناس الأمة والاتحادي كان لهم دور محدد في مرحلة تاريخية انتهى وما قادرين يصدقوا إنو دورهم انتهى في مرحلة تاريخية معينة.
{ ولكنهما لعبا دوراً مهماً وما زالا؟
– نعم لعبا دوراً مهماً ولكن دورهما كان مرحلياً.. وهذه المرحلة كان مفروض يتحركوا منها لمفاهيم أخرى، لو ناس تانيين يضعوا تصور تاني، مثلاً الحزب الاتحادي الديمقراطي فيه زول عارف البرنامج الثقافي شنو؟!
{ من سياق حديثك.. هل ترى أن الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي ساهما في استقطاب طائفي إلى حد أضر كثيراً بالهوية؟
– الهوية دي قضية مختلفة، فهي مبهمة وليس لها شكل.. وإنما هي صورة وجود، والصورة لا يمكن التحكم فيها.
{ هل ساهما في تعميق التنافر بين المكونات الثقافية السودانية؟
_ لا أبداً.. كانت هناك مرحلة احتياج كبير جداً للإنجليز لاستقطاب القيادات الدينية لأنها “تلم” حولها كل قناعات الشعب السوداني المتدين الذي يؤمن بالأولياء والكرامات، وبذكاء شديد أتوا بالسيد “عبد الرحمن” والسيد “الميرغني” وحتى كرموهم وأعطوا الشعب إحساساً أن الإنجليز شعب عادل ويحترم العقائد وده أدى إلى استقرار الإنجليز، حتى أن هناك بعض الناس استنكروا أن يقابلوا الملكة ويتم منحهم لقب “سير”، وأعتقد أنهم كانوا في مرحلة تهدئة عامة لنفوس كان لديها غبن شديد من ضرب “المهدي” وأم درمان، لكن كل الناس لم يكونوا مقتنعين بأن الدافع الديني هو الدافع الوحيد لتطور الشعوب، وبدأت تظهر أفكار جديدة ليست علمانية لكن لها حركة بالعلم، وبدأ إحساسان في السودان، الأول إحساس الانتلجنسيا التي ترى أن يسير السودان بناحية علمية بحتة وناحية تعتقد أن السودان ليست فيه مشكلة، وهؤلاء هم الطائفية.. وأقولها بصراحة إن السيد “الميرغني” كونه يحكم فهذا شيء طبيعي، وكذلك المهدية وحزب الأمة، وده كان مرحلة معينة لكن بعد الستينيات والسبعينيات ظهرت مدارس كبيرة جداً في الأدب والفكر، وتنادي بحرية الإنسان وظهر قادة مثل “جيفارا” والمد الاشتراكي العالمي وكانوا ينادون بإسقاط الرأسمالية العالمية التي كانت تختبئ وتعمل في نظام عالمي جديد.
{ أين هو دور الفكر السوداني الاقتصادي في هذه المرحلة؟
_ الحزب هو مشروع تخطيط لأمة مطروق في الساحة، وكل الأحزاب السودانية الموجودة الآن في الساحة لا تختلف في شيء مع نظام إسلامي ديني عدا حزبين أو ثلاثة.. وكلهم نتيجة لتكوين ديني بسيط مع تشدد البعض، وكلهم مرتبطون بالفكر الديني الغربي، ومنهج الحكم مثل البرلمان وغيره، بوريك إنو فكرة الهوية لا تحل مشكلة في السودان.
{ أنت قلت إن دور الأحزاب الطائفية انتهى؟
_ يجب أن يحدث تغيير في الدور وتحديث.. نحن نريد أن نفهم أين مشروعهم؟ وما هو اختلافهم عن المؤتمر الوطني؟ هل في الحريات؟ المؤتمر الوطني يمكن أن يمنحك حريات وفي أي شيء يمكن الاتفاق عليها.. أنا قلت إن المجموعات الصغيرة التي دخلت مع المؤتمر الوطني في شراكات كانت ضعيفة وتمثل نفسها.. دخلوا كأشخاص وليس كمشاريع.. مثلاً الاتحادي الديمقراطي ما الذي فعله في الحكومة؟ وما هو التغيير الذي أحدثه في سياسة الحكومة؟ لم يغير شيئاً، بس مسك وزارة.. ويمكن يحولوه من وزارة لأخرى دون أن يكون لديه مانع، المهم أن يكون في الواجهة وده غرض سلطوي ونفعي.. والأحزاب التي لديها القدرة على التغيير وجذب الشباب غير موجودة.
{ ليس لدينا أي أحزاب تحمل ما تقصده من تصور؟
_ لا توجد أحزاب تحمل تصوراً ثقافياً لخدمة القضية السودانية.. لا أقول لا توجد أحزاب، لكن لا يوجد لديها برنامج ثقافي.
{ إلى ماذا تعزو السبب؟
_ لأنه لا يوجد حزب في السودان أقام مؤتمراً ثقافياً خاصاً بالفكر الثقافي للحزب والتطور المنهجي لبرامجه.. يجب أن يكون هناك تطور للفكر الثقافي للحزب، لأن الحزب يجب أن لا يكون قيادة فرد أو اثنين وإنما مجموعة من المثقفين يكونون نواة الحزب تطرح تصوراً ثقافياً واجتماعياً يغير من الوجود في السودان، نحن عايزين نغير السودان كيف؟ يجي أي حزب عشان يغيره؟ هذا لا يمكن لكن مجموعة من الأفكار المطروحة في الساحة تشكل قاعدة، وهي نفسها فكرة الحوار.
{ ألا تعتقد أن تعدد الأحزاب وتنوعها جزء من الشكل الثقافي الموجود؟
_ ده ما ثقافة.. الثقافة هي الوفاق مع الطبيعة ومع الحياة وفيها تجميع علاقات مختلفة لإخراج صورة جديدة، لكنها ليست لقاءات ولديها معانٍ كثيرة وهي أن تكون متأكداً من أنك تفعل شيئاً له بعد زمني محدد.
{ أليس التنوع عنصراً من عناصر الإثراء؟
_ هذا موضوع آخر، والتنوع هو المكون للعمل الإبداعي، مثلاً يجب أن تجمع المكونات بقدر معلوم ودرجة مضبوطة وأي خلل يفسدها، ثم يأتي التكوين الداخلي والإبداع تتعاطى معه كوحدة كاملة، عشان كده الشعوب تأخذها كوحدة كاملة، والفنان والقائد الملهم هو الذي يخرج هذه الصورة.. وهذه هي الصعوبة في حكم السودان، في أنه لم يأت العنصر الماهر الذي يدير هذا التنوع.
{ هل تعتقد أن كل الأحزاب السودانية بحاجة ملحة إلى مراجعة فكرية وثقافية شاملة؟
_ السودان له تجربة كبيرة جداً في قيام الأحزاب وتطورها ومنهجها، لكن يوجد عدم منهجية في تطور الجانب الثقافي الفكري، وكان ذلك مطروحاً في الساحة لأنه كان يحتاج أن يربط العالم الفكري مع الواقع الفكري السياسي، لكن الأحزاب الآن فكرتها هي التخلص من النظام دون أن تطرح البديل الفكري الجديد، إنما طرحت السياسي الذي لا نحتاج له.. نحتاج إلى خبرة تدخلنا إلى العالم مرة أخرى بصورة علمية وفنية، وهناك مشاكل كبيرة جداً تواجه السودان لن تحل إلا عن طريق الفكر الثقافي الذي يجب أن يطغى أو يحور الذهنية السياسية.