معليش "حسام"
عادة أتوقف يومياً أدردش مع الصغير “حسام”، طفل ملائكي الملامح وسيم المحيا؛ يدرس في الصف الأول أساس أو الثاني وإن كنت أتعجب لـ”الشنطة” الضخمة التي تتربع على ظهره الضئيل كأنما ثبتت عليه بمسامير! فحجمها لا يتسق والسن الدراسية له؛ حينما أعبر به وشقيقته الصغرى “يسرا” التي تدرس بروضة ملحقة بالمدرسة فيما يبدو أتوقف عادة أتجاذب معهما بعض الحديث، فلهما انسجام بين أخت وأخ لافت إذ يحرص “حسام” على العناية بأخته فإن تعثرت مال عليها لينقذها، وإن شاغبت أرسل لها تنبيهاً وهي في حل من تنويهاته لكنه يمد آجال الصبر فوق حباله.
كان الصغير ينخرط مرات في ثرثرات مع العابرين إلى جواره، مرات أنصت للحوارات فأوقن أنه جيل من الأطفال، وعيه يفوق أعماره! توقفت إلى جوارهما، ألقيت التحية فرد “حسام” بفتور فقلت له: (مالك)؟ فقال وهو يشير إلى سن على فيه تركت ثغراً مفتوحاً في صف أسنانه العليا: (حمودي ضربني أمبارح وجرى)! قلت له: (معليش)، فحدجني بنظرة حرت فيها ثم أضاف: (عمو “حسن” سواق الترحيل قال ما نجي راسنا ممسح)! قلت بعجب: (ليه)؟ فأجاب وهو يمسح رأسه ليتأكد من جفافه فيما يبدو قال: (اشترى كراسي جديدة ونحن بنوسخا)! حرت جواباً فاكتفيت بـ”معليش” أخرى!
حضرت سيارة الترحيل ذات يوم أثناء وردي المعتاد معه، فأمسك الصغير بيد أخته التي كانت تتعثر في ضفائرها وقبل أن يصلا المركبة التي أطلت من نوافذها رؤوس الصغار احتفاء بمقدم “حسام” وأخته صاحت المشرفة بصوت فظ: (لا لا ما تركبوا وقولوا لبابا قالوا ليك قروش الترحيل)، ومع آخر حرف كانت العربة قد اختفت مخلفة خيطاً من الغبار والدخان الأبيض وظلالاً من الإحباط على وجه الصغيرين، ثم الحرج الذي تمثل في دمع ارتسم على محيا الوجه الجميل وإن تجلد معه وحرص على ألا يراق أمام من شهدوا الموقف.
أحسست بشناعة التصرف غير التربوي من المشرفة، فقلت: سأقلكما للمدرسة. لكن “حسام” رفض وهو يمسك بيد أخته يشق طريقه بيأس نحو منزله في آخر الشارع يتحاشى في سيره حفرة أو بركة ماء وتلاً من الأوساخ يعوق المسير، وأخته تستفسر في حيرة ولثغ جميل يزين حروفها: (“حسام” ليه الترحيل ما شالنا؟)، فيرد الصغير: (الليلة إجازة)! استحسنت الرد الموغل في الحكمة، فقد راعي على صغر سنه معنويات شقيقته.
تباً لاستثمار التعليم، فمهما يكن من سبب وعلة فثمة مائة طريقة لإخطار ولي الأمر بالقرار دون الحاجة لمثل هذا التصرف البليد.. ومضيت في طريقي والأسى يلفني.. مفسداً صباحاتي.. (معليش حسام).. معليش الثالثة! كان ثمة مليون طريقة لإخطار ولي الأمر بأن عليه متأخرات واجبة السداد؛ يكفي اتصال هاتفي، وتكتفي بورقة مغلقة حتى يبحث الوالد عن مخرج آمن للاستدراك والتصرف دون أن تهان كرامة طفل صغير بسبب إهمال والده أو ولي أمره وقبل أن يدفع فاتورة الظرف العام؛ هذا مع التسليم بأن صاحب المدرسة وأصحابها لهم حتماً التزامات من رواتب وإيجارات وبنود صرف لعمال وعلى معلمين، عدم الإيفاء بها قد يخلق مشاكل مماثلة لهم ولأسرهم بذات نسق مفتتح القصة.
أعتقد، خلاصة الأمر، أن القضية تحتاج إلى تكييف تربوي يتجاوز مفهوم عروض البيزنس والتجارة حتى يكون الوضع صحيحاً ومستقيماً، فالتعليم حتى في كونه أكل عيش يجب أن يلتزم بمعايرة أخلاقية وسلوكية تختلف عن كثير.. اللهم قد بلغت، فاشهد.