تحقيقات

حكايات مثيرة من مدينة الهدى الاصلاحية

نزيل سابق يتساءل : كيف يسمى السجن  اصلاحية ؟ والمدير يرد..
اللواء بدر الدين شريف :لم تصلنا شكاوى بالرشاوي أو إساءة معاملة النزلاء
كل المتورطين في مخالفات وتم ضبطهم ، قدموا للمحاكمة ، وهم الآن رهن السجون
أمل أبوالقاسم
خلال زيارتنا الأسابيع الماضية لمدينة الهدى الإصلاحية، بهرنا البنيان والطراز الجميل الذي يتميز به .وعقب فراغنا من الاستماع لنزلاء المادة ” 243 ” (يبقى لحين السداد) ، توجهنا برفقة نائب مدير السجن، لحضور برنامج أعد على شرف طلاب جامعة سنار الذين كانوا في زيارة علمية لإصلاحية الهدى، والمقام في قاعة داخل أضابير المصحة في مساحة داخل البنيان، قدرت بنصف كيلومتر من السير، فتسنى لنا بذلك الوقوف على عدد من المنشآت بالداخل، ولفت انتباهنا تلك القاعات المعدة لدراسة الحاسوب ،وغيرها من القاعات الصغيرة، كما لفتنا مرافقنا إلى أن بالموقع مرحلة أساس وثانوي وجامعة ، ففغرنا أفواهنا دهشة زادتها تلك القاعة محل الاحتفال ، والتي لبست كغيرها من المباني حلة خضراء يلف وسطها اللون الأبيض ،وقد أتحفنا بعض النزلاء بمواهبهم العديدة الموقعة  بواسطة آلات ومعدات تخص السجن. ونحن نهم بالمغادرة،  ألقينا نظرة على مجمل المكان الذي يحاكي قلاع التاريخ المستحدثة. ولكن كل هذا الصرح الجميل ،والصورة الجميلة التي انطبعت بأعيننا، كاد ان يهدها أحد الذين استضافهم السجن لأيام ، فرأى فيها ما أحال تلك الوضاءة التي تخيلناها إلى ظلام حالك،  يحاكي الظلم والقهر الذي أدعى انه  مارسه عليهم  بعض عساكر المصلحة المتعاملين معهم مباشرة.
وكان قد زارنا بالصحيفة الأستاذ ” ع ع ح  “، فقص علينا في شجاعة ، وهو- كما قال – لا يخشى في الحق لومة لائم، ما أسماه  “سوءات الحبس وبطش العساكر وغير ذلك من التجاوزات والاتهامات والتى رد عليها مدير الاصلاحية.
بدايات بائسة
قال الشاكي ،الذي بدأ عليه الوقار وسيماء الصلاة على وجهه من أثر السجود ، ولا غرو في ذلك فهو إمام المسجد بمنطقتهم. وضع فهو قد  تم حبسه لعشرة أيام على خلفية غرامة قدرها عشرة مليون،  ضمن بها أحدهم ومن ثم تم الإفراج عنه بعد سدادها، فخرج وفي جعبته الكثير مما شاهده بأم عينه ،وما حدث له شخصياً . وبدأ حديثه في رواية الوقائع  متسلسلاً في الأحداث ، منذ خروجهم من المحكمة في طريقهم إلى السجن، وكيف أن الدفار الذي تم نقلهم به  كان ضيقاً قذراً ولم يتبق لهم شيء سوى أن ينثروا عليه ” برسيماً” ، كما قال ،في إشارة إلى تشبيههم بالبهائم ،مضافاً إلي ذلك  المعاملة السيئة ، على حد تعبيره ، ما يشير  الى بدايات غير مبشرة لإقامة لا يعرف الله مداها. هذا ما يحدث منذ الوهلة الأولى.
ثم استرسل ،وهو يصف معاملة مضيفيهم ، قائلا : “حتى وأن كان  النزيل في حبس كفلت له المواثيق الدولية والقوانين اشتراطات تتوافق والإنسانية، فانه يواجه نفس المعاملة. واضاف :  إنهم وبمجرد نزولهم من “الدفار ” المكدس بكل أنواع المحكومين، سمعوا من  يقول مستهتراً، على حد وصفه، ( يلا يا جماعة رحبوا بالضيوف وأدوهم اللازم) ، وما كان هذا الترحاب إلا عددا من السياط  “يتلذذ بها العساكر ويتلظى بها المحكومون”             الذين لا حول لهم ولا قوة في هذا المقام ، ، ثم يطلب منهم الذهاب. وقبل أن يكمل حديثه استدرك ، إنه لم يسمح لهؤلاء بضربه ، ولم ينصاع  لتلك الأوامر القاضية بالجلوس أرضاً ،حال الحديث إليهم،  كما يفعل غيره. ثم استطرد، ( وما زلنا في البدايات) : وقبل التوجه إلى العنابر يخيّر النزيل  فيما بينها ، ” فإن كنت ترغب في إقامة طيبة ومريحة، فى عنابر معينة،   فما عليك سوى أن تدفع مبلغ (500 ) جنيه،  كيما تنعم بها ، وإلا ستبقى  في جحيم العنابر العامة ،التي لا يقل عدد أفراد الواحد منها عن 75  فرداً.” ولهذه العنابر حكاية، كما يقول.
شراب من الحمام
قال محدثنا أن هناك عنبراً يسمى (عنبر خمسة) ـــ وهو ما نفاه مدير الإصلاحية لاحقاً ــ معزول ولا يتمتع بأي خدمات لوا تهوية ولا تروية. ولا توجد به كهرباء أو ماء. ويحدث فيه كل ما يخطر على البال، ومن سوئه يهدد به المحكومون ــ أي بمثابة حبس داخل الحبس ــ أما بقية العنابر فتغلق أبوابها عند الرابعة عصراً ،ويمنع حتى الخروج للمسجد ،حيث تتم بقية الصلوات داخلها، وقال عنها إنها سيئة التهوية .والعنبر فوق ما فيه من زحمة ،تعلق على سقفه مروحة واحدة، أما ماء الشرب والوضوء والحمام ،فلكل نزيل جردلان واحد للإستحمام والثاني يعبئ فيه ماء الشرب من الحمام.
أما العساكر وتعاملهم مع النزلاء “فحدث ولا حرج”، كما قال . وبحسب محدثنا، فإن بذاءة اللسان والأسلوب تغلب على التصرفات. وان ما شاهده منهم دفعه للتساؤل عن كيف يطلق على السجن إصلاحية … فهم، كما قال ، لا يتوانون في إطلاق أي لفظ على السجين. فضلاً عن ما أسماه  “المبايعات والمزايدات” التي تجرى وفق كل تصرف للنزيل، كأن يسمح لك بالتحدث بالجوال ،لكن بعد أن تدفع ثمن هذه المكالمة خمسين جنيهاً، على الأقل .وفي حال شعر بمرور أي إداري ، فانه يأخذ منك الهاتف قبيل ان تكمل مكالمتك ، مدفوعة الأجر. هذا في حال كنت محظوظاً، ولم تتم مصادرة الموبايل نهائياً ، وهو الأمر الغالب.
الدفع مقدماً
أيضاً حكى عن تجربة شخصية حدثت له ، قال انها ” ديدنهم في مثل هذه المواقف بأخذ مقابل مادي عن كل ” توصيلة ” سواء أكانت أكلا أو فاكهة أو غيرها ،وليتها تصل للنزيل كاملة!”. ولأن محدثنا  يعاني إشكالاً مرضياً في بطنه، فإنه يأكل أشياء معينة، رغم أنه أضرب عن الطعام لفترة طويلة، كما قال . وكان أن أحضرت إليه أسرته زبادي ومعلبات وأدوية ودفعت معلوم التوصيل مقدماً. لكن في المسافة ما بين التسلم والتسليم انحسرت وتقلصت الأمانة لتقتصر على الدواء فقط . وعندما سألوه،  بكل برود ،عن وصول أمانته رد عليهم :(الدواء ذاتو كان تشيلوه).
وقال أيضاً، ان البعض  يعمدون إلى تجريح النزلاء الذين يعكفون على قراءة  كتاب الله ،ويداومون على أداء  الصلاة ، بالتقليل من مداومتهم ذكر الله ،والاستخفاف، بقولهم( انتو لما بتعرفوا ربنا جيتو هنا ليه.؟!.. الله ده عرفتوه، يا دوب؟ ) .ما دفع الكثيرين منهم لهجر السبح والتخفيف من الذكر ،أو تركه البتة. وهنا استدرك محدثنا متسائلاً : (بالله كيف تسمى هذه إصلاحية،  ويحدث فيها كل ذلك؟ )
معيشة فندقية
أما نزلاء المادة (يبقى لحين السداد) فهؤلاء،  وحسب حديث “ع ” ، فيعيشون في رفاهية داخل الحبس ، فموائدهم الملأى بشتى أنواع اللحوم والأكل الفاخر لا تنقطع ،أو يجف معينها . وهي غالباً من أرقى المطاعم بالعاصمة، تحضر بواسطة أحدهم ، يتم الاتصال به يومياً بعد إملاء الطلبات عليه ، فيحضرها بعربته ،وفق مقابل مادي، واتصلت عليه ” المجهر” وأقر بذلك.  ذهب محدثنا لأبعد من ذلك ، بأنه وأثناء إقامته القصيرة بسجن أم درمان ، كان أحد الغارمين يخرج بشكل يومي عند الصباح لمباشرة عمله برفقة عسكري ــ وهو حال الكثيرين ــ ويعود آخر اليوم ،وهو محمل بكل ما لذ وطاب من طعام،  ثم لا يتوانى بعد فرشه على الطاولة  عن تصويره ورفعه للشاكى عبر المحمول.
بيد أن هناك  قضية،  أكثر خطورة، جرى تداولها في  أوقات فائتة،  ليس على المستوى المحلي بل العالمي والدولي، دون أن تستأصل من جذورها . وهي تسريب  الخمور والمخدرات، بطريقة أو بأخرى ، إلى النزلاء ،  فيما أحبطت  بعض المحاولات أخرى بالكشف عنها قبل ترويجها.  وليس ببعيد عن الذاكرة ، حادثة النزيل الذي واصل ممارسة نشاطه داخل السجن، وضبطت بحوزته كمية كبيرة منها وتمت محاكمته كمتعاط ،اذ لم يثبت ترويجه لها، وغيرذلك  كثير مما أثبتته محاضر الشرطة ،وحاكمت بموجبة المتورطين .  لكن ثمة أحاديث متداولة  حول هذا الامر حتى الآن .وهو ما شهد به “ع ـ ع”، في روايته  للمجهر .
تعقيب ونفي وإحجام
كان لابد  لنا من طرح كل تلك  الافادات ، بما حوته من اتهامات وشكاوى، على مدير مدينة الهدى الإصلاحية ،اللواء ” بدر الدين شريف “، وبدوره نفى كثيراً مما ورد  على لسان محدثنا،فيما عقب على بعضه، وأحجم عن التعقيب على البعض الآخر. وعن “عنبر خمسة” الذي ذكره النزيل السابق، قال: أنه  ليس لديهم عنبر بهذا الإسم .فقلنا له انه ،وبحسب محدثنا، يقع في الجزء الخلفي للعنابر. فعاد ونفى وجوده مرة أخرى. وفيما يخص المخدرات والخمور وتسريبها داخل السجن ، لم ينف ذلك، لكنه عاد ، وقال إنها لم تتكرر كثيراً . وما حدث من وقائع كهذه تم ضبط المتورطين وقدموا للمحاكمة وهم الآن رهن السجون. أما أخذ العساكر لمبالغ مالية مقابل عدد من الخدمات للنزلاء والمعاملة السيئة من قبلهم،  قال:  انه ليس لديهم علم بذلك ،أضاف :من باب أولى  انه إذا تعرض أحدهم لأي شيء من ذلك القبيل  أن يبلغ الإدارة، مبيناً إنهم- كإدارة – يقومون بطواف أسبوعي أو مرتين في الأسبوع ،ويقفون بأنفسهم على حال النزلاء، فلماذا  لم يرفع هؤلاء شكواهم لهم؟
قلنا له أن الرشوة وسط وحدات الشرطة موجودة وممارسة ،وأقرت بها الجهات العليا بدليل إنها شرعت في رفع مرتباتهم ، حتى لا يلجأوا للرشوة، وإحتمال أخذهم مبالغ من النزلاء وارد ــ لم يعقب على ذلك ــ واكتفى بالقول  بأنه لم تردهم شكاوى، ايضاً ، في هذا الخصوص.
لماذا لا يحدث هذا ؟
سألناه أيضاً عن لماذا لا يخضع منسوبي الخدمة الشرطية، سيما في السجون، خاصة اولئك الذين يتعاملون مع النزلاء مباشرة،  لدورات تدريبية عن كيفية التعامل وغيرها ، مما يتعلق بالتعامل مع النزلاء،  حتى لا تحدث مثل تلك الانتهاكات والتجاوزات؟ فليس من المعقول أن تكون هناك خدمة علاج نفسي وإجتماعي ، لامتصاص صدمة البعض و”تهوين” الأمر عليهم، وقد إنتقلوا لحياة أخرى لا تشبه تلك التي عاشوها طيلة عمرهم،  وربما يفقدون في  حياتهم الجديدة ما بنوه في القديمة، ثم يأتي هؤلاء الجنود ويهدوا من عملوا  على بنيانه؟ فاكتفى مدير السجن بالرد علينا  بسؤال .”.كيف تجرى الدورات وهم قيد الخدمة ؟ ولكأنه بسؤاله يتنصل عن التعقيب ،مع العلم بأن الدورات في كثير من المرافق الأخرى ،تجرى خلال العمل لغرض التجويد والتوجيه.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية