أم درمان زمان!!
تجانى حاج موسى
نظم صديقي المرحوم الشاعر “عبد الله محمد زين” قصيدته الشهيرة عن أم درمان، مدينته وهو أحد أبناء الحي الأم درماني العريق “حي العرب”.. ليس وحده من الشعراء الذين تغنوا لأم درمان العريقة.. صديقي الشاعر ابن بيت المال “الفاتح حمدتو” نظم أيضاً ملحمة غنائية وضع لحنها الصديق الموسيقار “د. الماحي سليمان” ونظمت لها أيضاً قصيدة مطولة.. والبقعة تستحق أن تكتب فيها الملاحم والأغنيات.. زمان أُطلق عليها اسم “كرش الفيل” كناية عن احتوائها على كم هائل من البشر من شتى أصقاع السودان من كافة قبائله المتعددة الأجناس والسحن.. “وردوا وشدوا فوقي الناس.. ونادوا بقية الأجناس.. وأنا الطابية المقابلة النيل.. وأنا العافية البشد الحيل..” هكذا قال عنها “ود محمد زين”.. وقال عنها صديقي الشاعر اللواء “أبو قرون” (تدخل بي حمار تمرق بي حصان)، وشدى الفنان “الفرجوني” و”سمية حسن” و”أبو عركي البخيت” برائعة “ود محمد زين”، وغنى لها عميد الفن الراحل “أحمد المصطفى” من نظم الشاعر اللواء “عبد المنعم عبد الحي” (أنا أم درمان تأمل في وجودي)، وأهل الحقيبة غنوا (طال هجري لي أمدر أمان .. بي بعادي حكم الزمان..)، ولن أحصى عدد الشعراء والمغنين الذين تغنوا لعاصمتنا القومية فهم كُثر.. ولم يشذ إلا أستاذنا الراحل “محمد الواثق” الذي هجاها بقصيدة مطولة بعنوان (أم درمان تحتضر)، وتصدى له العديد من النقاد والكُتاب ينتقدون قصيدته القادحة لأم درمان عاصمتنا القومية.. أيضاً تصدوا للبروفيسور “حمدنا الله” في بحثه الذي قال فيه بأن أم درمان مدينة مصنوعة.. والسؤال هو لماذا الحديث والتغني بأم درمان استغرق الشعراء والكُتاب والمبدعين دون المدن الأخرى بالسودان.. بالطبع لابد من ذكر الإمام “محمد أحمد المهدي” باعتبار أنه اتخذها عاصمة حينما بدأ دعوته عند ثورته ضد الانجليز عندما نشر دعوته وتداعى له أهل السودان من كل حدب وصوب، ولعلي لا أضيف شيئاً للذين كتبوا عن أم درمان من أساتذتنا الذين أفاضوا مؤكدين أهمية هذه المدينة العظيمة.. لكن جاءت فكرة هذا الحديث وأنا أجوب ميدان البوستة بأم درمان، وقد تزاحمت فيه المحال التجارية الصغيرة وتزاحم الناس في تلك الناحية.. تجولت لأكثر من ساعة وأنا أسترجع سنوات مضت وأنا في ميعة الصبا بعد أن قدمت من مدينتي “الدويم” وبدأت إجراء مقارنة لحال المدينة قبل أربعة قرون من الزمان.. نفس ميدان البوستة كان مبنى سينما “برمبل” سُميت باسم أحد الحكام البريطانيين.. شاهدنا في تلك السينما فيلماً للنجم “بيرن لانكستر” بالألوان الطبيعية والسينما سكوب.. اسم الفيلم “القرصان الأحمر”، بعدها بقليل هدموا تلك السينما الجميلة وأقاموا مكانها حديقة جميلة، بها نافورة وفي واجهتها تمثال ضخم لامرأة قالوا إنه لزوجة الرئيس الراحل “عبود”، حول تلك الحديقة كانت هنالك محال للفاكهة فقط.. أم درمان تشتري الفاكهة من تلك الناحية.. شرق هذا الميدان مقهى العم “جورج مشرقي” الذي صمد ليديره أحد أبنائه ليصبح محلاً لبيع الخردوات.. كنا في الأمسيات نأتي نسترق النظر لمشاهدة المشاهير من الفنانين والشعراء.. تجاه الجنوب من هذا الشارع المعروف بشارع الموردة في ناحيته الغربية التي تواجه السينما الوطنية أم درمان كان مقر (مقهى يوسف الفكي) وأشقائه منهم زميلنا الإعلامي “عطية الفكي”.. زبائن هذا المقهى كانوا من المعلمين والسياسيين ونجوم كرة القدم وطلبة الجامعات.. بالمناسبة لماذا أوصدت (سينما الوطنية) أبوابها ومن أصحابها.. ولماذا ظلت طوال تلك السنوات مهجورة؟! بالمناسبة أنا من محبي السينما ولها عليَّ فضل التثقيف لي.. الشاعر والملحن المرحوم “عبد الرحمن الريح” كان من محبي السينما، كذلك الراحل الشاعر “عتيق” والعديد من رواد الفن والثقافة.. “أبو عركي” والراحل “زيدان” والراحل “خليل إسماعيل” والراحل “محمدية” وآخرون.. كنا نفضل العرض الثاني.. بالمناسبة حول تلك الدور عدد من الباعة يعرضون الأطعمة والتسالي وقصب السكر، كنا نتزود من تلك المطايب وندخل السينما ونحرص على سماع الأغنيات الشهيرة لـ”أحمد المصطفى”، “عثمان حسين”، “الكاشف”، “أبو داؤود” و”إبراهيم عوض” ومشاهدة استعراض أفلام الأسبوع والشريط السينمائي الذي كانت تنتجه وزارة الإعلام يحوي أخبار الدولة.. كنا من أوائل المنتجين للسينما.. رحم الله العم “جاد الله جبارة” رائد السينما السودانية رحل وهو يحلم بسينما سودانية والرجل لو وجد عوناً صادقاً لكنا من صناع السينما.. كنا نزوره ليحدثنا عن الفن السابع.. أم درمان كانت تُغسل شوارعها بعربات رش المياه.. الطابق الأول من (مقهى جورج مشرقي) كان عبارة عن مكتبة عامة تتبع للبعثة التعليمية المصرية كنا نرتادها، وجنوب المجلس البلدي كانت مكتبة المجلس البريطاني والتي يؤمها محبو القراءة، وهنالك مكتبة أم درمان ناحية شارع التجاني الماحي الموازي لشارع الموردة.. ماتت تلك المكتبات وتركت فراغاً مذهلاً وفاقداً ثقافياً مؤثراً.. الآن هنالك لافتة ناحية الموردة تجاه (مسجد النيلين) في أرض أظنها خصصت لمكتبة أم درمان الوطنية.. كتبت عن تلك اللافتة ورجوت المعتمد الشاب لمدينة أم درمان أن يبدأ على بركة الله بناءها.. ونحمد للمعتمد الأسبق إنجازه للمركز الثقافي العظيم الحديث الذي يقع غرب حوش الخليفة.. تذكرت الترام أيضاً ركبناه في أواخريات أيامه.. مات الطرماج أيضاً.. والترامات مازالت تجوب عواصم الدنيا.. أم درمان هسه!! انبعجت وتمددت وازدحمت بالناس الذين وفدوا من كافة ولايات السودان.. ولعلي الوحيد الذي يجد العذر للمعتمدين الذين صعب عليهم توفير الخدمات العامة لمدينة ما كنا نحسب أنها صارت سوداناً مصغراً.. الحل طبعاً في توطين الخدمات وسبل كسب العيش بالولايات التي خاصمتها الزراعة والحرف القديمة التي كانوا يمتهنها قاطنوها.. بحي البوستة ببيت جدي “إسماعيل” شيخ السوق.. هناك خلوة الكتيابي وندوة الأديب الراحل “عبد الله حامد الأمين” وهناك شاهدنا الراحلين من أدباء وشعراء لهم الرحمة “صلاح أحمد إبراهيم”، “مصطفى سند”، “مبارك المغربي”، “خالد أبو الروس”، “صديق مدثر”، “عبد المجيد حاج الأمين” و”فراج الطيب” ونفر من الأحياء، تحدثنا معهم واستمعنا لمحاضرات الشاعر “د. حسن عباس صبحي” عن الشعراء الغربيين، واستمعنا للأستاذ “الكابلي” وهو يغني لرواد ذلك المنتدى.. وركبنا المعدية من أبوروف إلى شمبات.. المعدية ماتت وكانت وسيلة مواصلات عجب!! أما مقهى عمنا “محمد خير” الذي يواجه سينما الوطنية أم درمان هناك شربنا الشاي مع الشاعر العظيم “العبادي”، ولعبنا ضمنة مع أستاذنا الراحل “عوض جبريل”، واستمعنا إلى أحاديث المؤلف والممثل المخرج “حسن عبد المجيد” وأستاذنا “إسماعيل خورشيد” وأستاذنا “عتيق” و”عبيد عبد الرحمن” وآخرين من عظماء بلادي أبناء أم درمان.. مكان هذا المقهى عمارة شاهقة.. بعض المدن تحرص على الأمكنة العتيقة لأنها جزء عزيز من الوطن وتاريخه.. لكننا لا نحفل ولا نهتم.. في جولتي تلك “غيرت” إطار نظارتي عند صديقي “البعيو” أحد أبناء حي العباسية الأم درماني العريق، وهو يمتلك طربيزة اتخذها مكاناً لعمله المهم.. حكى لي بالكشة لستات الشاي وبعض من يفرشون بضاعتهم.. كسرة توابل خضر وأشياء بسيطة وجلهم نساء دفعت بهن الحياة ليكتسبن رزقهن الحلال بصبر الأنبياء منذ شروق الشمس حتى مغيبها ليرجعن إلى منازلهن المتواضعة في أطراف المدينة بما رزق الله لأسرهن وهم ينتظرون اللقمة الحلال ومصاريف المدارس.. أقول لمحافظ أم درمان الشاب “اليسع”، أسأل الله أن يعينك على إدارة شؤون أم درمان.. أشفق عليك فالمهمة صعبة وشبه مستحيلة.. خلي بالك من هؤلاء النسوة فقد علمت أنهن يودعن في الحراسة ويقدمن إلى محاكم النظام العام ويلزموهن بدفع غرامات لا حول لهن بها.. (وقدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الشاقي الترام..)، حدثنا الراحل عن ناظم الأغنية الجميلة المناضل الفنان الملحن الشاعر “خليل فرح” وتلك قصة أخرى.. وحكا لنا عن أغنية (إمتى أرجع لي أمدر وأعودا وأذكر بقعة أم درمان والسلام يا المهدي الإمام..)، أما عن نفسي فقد دفعت ضريبة محبتي لأم درمان علقة شهيرة بـ”بريطانيا” وبالتحديد بمدينة “بيرنغهام” حينما تصدى لي بعض الأبناء بالمعارضة ومنعوني من قراءة قصيدتي في أم درمان يومها شج رأس صديق الوزير المفوض وقتها بـ”بريطانيا” “د. خالد فتح الرحمن” وعلقة أخذها صديقي “د. كمال أبو سن”، وتلك قصة تناقلتها وكالات الأنباء.