تعريفة المواصلات الجديدة.. المعاناة أرتال فوق أرتال!
ما أن أعلنت زيادة تعريفة المواصلات حتى ارتفعت الأصوات منددة بها، وتطاولت ردود الأفعال لدى البعض بعد أن تلبستهم حالة من الغضب ليخرجوا إلى طرقات ولاية الخرطوم، فقد هيجت الزيادة عليهم لواعج أحزان قديمة تراكمت فوق بعضها لتنفجر بالزيادة الأخيرة ليثبتوا لأنفسهم أنهم مازالوا أحياء يتأثرون ويؤثرون.
تلك بعض تفاصيل ما جرى في الطرقات العامة، والتي أعلنت زيادة المعاناة على كاهل المواطنين أرتالاً فوق أرتال، لكن يا ترى لماذا أُجيزت الزيادة؟ وهل هنالك مبررات منطقية تسندها؟ وما هو مصير المواطنين بكافة شرائحهم بعد أن إنعكس عليهم ذلك الواقع سلباً؟ تلك وغيرها تساؤلات وضعناها تحت عدسة (المجهر)، وشرعنا نبحث لها عن إجابات.
يا تدفع يا تنزل..
هرج ومرج ساد معظم الحافلات العاملة في نقل الركاب بكافة أنحاء ولاية الخرطوم، عبرت عن ما يجيش بدواخل المواطنين من غضب ظل يتراكم طبقة إثر الأخرى، ارتفعت الأصوات عالياً في أحيان كثيرة مشتبكة مع الكمساري الذي يضيق به الحال في كثير من الأحيان، فيشهر التعريفة الجديدة في وجه الركاب، وبذا يحسم الجدل ويدع للمواطنين حرية التعبير عن مشاعرهم، فيستل البعض كلمات تغوص ببقية الركاب في وحل الشتائم شاءوا أم رفضوا فلا مناص، يتم كل ذلك داخل الحافلة، فيما استسلم البعض الآخر للأمر الواقع وسدد قيمة التذكرة كاملة عساه ينعم بهدوء البال. أما فئة الطلاب فهم أكثر الفئات تضرراً بعد أن صار الأمر محسوماً بأمر (الكماسرة) الذين أصبحوا يرددون عبارة (يا تدفع يا تنزل) في وجوه ركاب الحافلات، وبذا أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه.
(أماني عبد الوهاب) التي تدرس في جامعة الخرطوم التطبيقية تواجهها مشكلة حقيقية، فهي تسكن مدينة أمدرمان ومعظم المواصلات العاملة في خط الطائف (هايسات)
ما يجعلها غير قادرة على التعامل مع أصحاب الحافلات بهويتها التي تحملها في محفظتها كطالبة، فسائقو (الهايسات) يستبعدون أي إستثناء يمنعهم من تحصيل قيمة التذكرة كاملة، وهكذا تجد نفسها مضطرة إلى السداد على ذلك النحو، لكنها مواجهة بمشكلة وصفتها بالمعقدة، حيث أنها تحتاج إلى مبلغ ستة جنيهات في اليوم للترحيل على ذلك النحو، وتوفير ذلك المبلغ غاية في الصعوبة وفقاً لإفادتها التي ساقتها لـ( المجهر) ذلك من جانب، ومن جانب آخر هي حريصة على عدم الدخول مع (الكمساري) في مشادة كلامية، لكن الثمن الذي تسدده يتمثل في عدم حضورها إلى الجامعة عدة أيام كل أسبوع بسبب ضيق ذات اليد. أما (محمد هاشم) الذي يدرس بجامعة السودان، فقد بدا حاملاً هم توفير مبلغ الخمسة جنيهات التي تمكنه من الذهاب إلى الجامعة يومياً، فوالده الذي كان يوفر له ما يكفيه ليومه أصبح غير قادر على فعل ذلك، بعد أن صارت الظروف الاقتصادية تكبل قبضته الضاغطة، والتي شكلت مشكلة كبيرة تقف في مواجهته وأسرته وأبنائه الذين يتلقون التعليم في مراحل دراسية مختلفة، (محمد هاشم) الذي تحدث إلى ( المجهر) بدا في غاية الغضب وهو يتحدث عن انعكاس مجريات الأحوال الأخيرة على أسرته.
(إيد ورا وإيد قدام)..
ذلك ما كان من أمر (محمد هاشم). أما زميله (عبد الله) والذي كان غارقاً في بحر الحيرة أثناء حديثنا، فقد بدأ محاطاً بهالة يأس كثيفة وكأنه قد سلم الأقدار مستقبله لتتصرف فيه كيفما شاءت، وبدأ حديثه لـ( المجهر) وهو يردد (يا جماعة الحاصل لينا دا كلو من الانفصال ودا وضع طبيعي). أما (خديجة) بائعة التسالي التي تمارس مهنتها في موقف (جاكسون) بالخرطوم، فقد تملكها الأسى من رأسها إلى أخمص قدميها، فهي المسؤولة عن مد أسرتها التي تعتمد عليها كلياً بمقومات الحياة، ولديها معادلة تأبى الإتزان مهما فعلت مما يجعلها تخرج (إيد ورا وإيد قدام)، فدخلها في اليوم يصل إلى عشرة جنيهات وهي تسكن منطقة مايو وتجبرها الظروف على إمتطاء الحافلات (الهايس) من وإلى مكان عملها، وبذا يكون صافي ربحها الذي توجهه لأسرتها خمسة جنيهات فقط لا غير، لكنها تتمسك بالعمل من منطلق أنه يمثل رزقاً حلالاً تفضله على البقاء بالمنزل.
في جانب آخر كررت إحدى ربات المنازل التي كانت تتسوق في سوق أم درمان عبارة واحدة تقول (الله يهون على الشعب السوداني والزيادة دي والله كتيرة). أما سحر التي تسكن منطقة الكلاكلة والتي تخرجت لتوها من الجامعة، فقد جاء رأيها واضحاً وصريحاً، فهي ترفض زيادة التعريفة وترى أنه لم يعد بمقدورها الخروج من المنزل للبحث عن الوظيفة بعد أن كانت تنفق مبلغ ستمائة جنيه أصبحت بعد الزيادة ثمانمائة جنيه لتصل إلى مكان تمتطي فيه بص الوالي الذي لا تمتلك خياراً أفضل منه لينقلها إلى وسط الخرطوم، لذا فهي تنتظره وإن تطاول أمد قدومه.
مشهد ظل يتكرر باستمرار أمام ناظري سكان منطقة مايو جنوب الحزام الأخضر (سابقا) وتضم أحياء (مايو، عد حسين، عباد الرحمن) وغيرها من المناطق المجاورة، حيث درج سائقو حافلات (الهايس) على إستغلالهم بشكل سافر وواضح في ظل انعدام الرقابة، وذلك بلجوئهم إلى تخصيص صينية السوق المركزي كموقف وسط يفصل المسافة بين منطقة مايو والسوق العربي، باعتبارها محطة نهائية وتحديدهم مبلغ جنيه للراكب، ثم يعبئون حافلاتهم من نفس المكان بذات القيمة إلى منطقة مايو، وبذا يتحايلون على التعريفة الموضوعة من السلطات والبالغة جنيه ومائتي قرش ليكتوي المواطنون بنيران المعاناة والجشع وغياب الرقابة، وتصل قيمة التذكرة في حالات إستثنائية مثل هطول الأمطار وما إلي ذلك إلى ثلاثة جنيهات كاملة، ذلك المشهد كان يتكرر قبل إعلان التعريفة الجديدة ولا أحد يعلم كيف سيتحايل هؤلاء على الأوضاع ليجمعوا أرباحاً على حساب خداع المواطنين دون اعتبار، إلا أن غالبيتهم يندرجون تحت فئة ذوي الدخل المحدود.
الإجتماع الفاصل..
ذلك ما كان من أمر المواطنين الذين حكت العينة التي سقنا قولها شيئاً من معاناتها، لكن دعونا نطرق باب الطرف الآخر المتمثل في أصحاب الحافلات والذين جلسوا في إجتماع إنعقد في الحادي عشر من يونيو الجاري، ليكون الاجتماع الفيصل الذي أقرت فيه ولاية الخرطوم التعريفة الجديدة بمكتب والي ولاية الخرطوم، معلنة انحيازها الكامل إلى سائقي الحافلات بعد أن جلست إلى نقابتهم كثيراً في اجتماعات متتالية، ذلك الاجتماع كان مشتركاً بين الهيئة الفرعية للحافلات ولاية الخرطوم والدكتور (عبد الرحمن الخضر) والي ولاية الخرطوم، ووزير البنى التحتية (أحمد قاسم)، ووزير التنمية الاقتصادية وحماية المستهلك دكتور (علي الجيلاني) وإدارة شركة مواصلات ولاية الخرطوم، وكان قد سبقه طرح لمقترح زيادة التعريفة باعتباره المخرج الوحيد الذي يمكن سائقو الحافلات من الاستمرار في مهنتهم، وكانت قد سبقت ذلك مكاتبات عديدة ظلت النقابة تتبادلها مع ولاية الخرطوم منذ الرابع عشر من أبريل الماضي، عكست معاناة سائقي الحافلات جراء إرتفاع أسعار الإسبيرات ومدخلات التشغيل بشكل عام والتي بدأت بصدور قرار عن وزير التجارة يقضي بحظر إستيراد الإسبيرات المستعملة التي كانت تمثل الملاذ الآمن الذي يلجأ له سائقو الحافلات في ظل ضعف إمكانياتهم المادية من جانب وإرتفاع أسعار الإسبيرات والسلع بشكل عام من جانب آخر، ووفقاً لدياب فضل السيد العوض رئيس اللجنة الفرعية للمواصلات الداخلية بولاية الخرطوم، فقد جاءت مطالبتهم بزيادة التعريفة إثر ارتفاع الأسعار في ظل السوق الحر التي صحبها ارتفاع كلفة التشغيل والتزايد المضطرد في أسعار الإسبيرات واللساتك وحتى الزيت والديزل بشكل لا تخطئه العين بعد إنعدام الحافلات من المواقف بعد الظروف الإقتصادية الضاغطة التي أحاطت بأعداد كبيرة منهم، ومضى ليقول إن زيادة التعريفة جاءت ترضية ولا تمثل طموح سائقي الحافلات لحل المشكلات التي تحيط بهم، لكن قبولهم بها جاء من باب مساهمتهم في حل مشكلات الوطن والظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد، فالتعريفة الجديدة حسبما قال لا تكفي للإيفاء بنسبة (25%) من كلفة التشغيل.
اعتصار الأسى..
المبررات المنطقية التي إستند إليها القرار الذي أقر زيادة تعريفة المواصلات تمثلت في الإنحياز إلى سائقي الحافلات تقديراً للمعاناة التي يجدونها جراء مشكلات عديدة أحاطت بعنق مهنتهم أبرزها، زيادة أسعار الإسبيرات والتي تأثرت بها أسر بشكل مباشر في كافة مناحي الحياة مما حدا بعدد منهم إلى اللجوء إلى التحايل ليسدوا بها رمق أسرهم، كالتسول أو لجوئهم إلى العمل ككاتبي نمرة، ورغم صدور القرار بزيادة التعريفة، فإن المشكلة مازالت قائمة وفقاً لرئيس اللجنة الفرعية للمواصلات الداخلية بولاية الخرطوم ولن تجد حلاً جذرياً، إلا أنها لا تشكل سوى مسكنات، ولن يكون الحل جرياً إلا بصدور قرار واضح من والي ولاية الخرطوم إلي الشركة الفرعية الممثلة للهيئة النقابية، لكن رغم ذلك كله إلا أن قرار زيادة التعريفة نزل لأرض الواقع وكأنما المواطن يحلّق بعيداً عن المعاناة التي اعتصرته وكادت تودي بحياته. بينما أكدت الاستطلاعات التي أجرتها ( المجهر) وسط قطاعات واسعة من المواطنين إلا أن الأسى أضحى يعتصرهم جراء الزيادات المتتالية عليه، وآخرها القرار الأخير القاضي بزيادة تعريفة المواصلات، وبذا تكون المعاناة قد بلغت أوجها حتى صار عدد من الطلاب يتغيبون بحجة عدم توفر المبالغ اللازمة لذهابهم إلى الجامعات والمدارس والإياب منها. وقد سقنا عدداً من تلك النماذج سابقاً، فيما عزف مواطنون عن الذهاب لتلقي الخدمات العلاجية بسبب ضيق ذات اليد. فهل توجه الجهات المسؤولة نظرها تجاه المواطن الذي أضحى لا يدرك من أمره شيئاً، أم تتركه وحيداً يصارع هوجة الأسعار المرتفعة من كل جانب دون أن تمد له يد العون ليترك الباب مفتوحاً لسيناريوهات عديدة تقوده في النهاية إلى لفظ أنفاسه الأخيرة وما ذلك ببعيد، فزيادة الأسعار تحيط بمعصم كل الخدمات الضرورية من صحة وتعليم وغيرهما.