الغارمات بدار التائبات، .. روايات مؤلمة تحكى بحروف متحشرجة
الحلقة الأولى
الأغلبية إنفصل عنهن أزواجهن وتشرد الأطفال
ــ طالبات وموظفات .. معلمات وطبيبات وخريجات ..يذرفن الدمع السخين
ــ مشرفات واجتماعيات يجتهدن في درء آثار المشكلة وتداعياتها داخل وخارج السجن
ـــ طبيبة تحل (25) مليوناً من مديونيتها بتصنيعها أناتيك وتسويقها داخل وخارج السجن
ـــ باعت أراضٍ لأربعة أشخاص وعند التسجيل اكتشفت إنها مباعة لإحدى عشر شخصاً
ـــ في موقف إنساني .. شاكي يتنازل عن حقه لغارمة ويمنحها مصروفاً مراعاة لظروف أطفالها
ـــ معلمة يغرقها شقيقها في الديون ويتركها تواجه مصيرها وتخسر زوجها وتفقد أطفالها
ـــ سبعة أطفال يعيشون وحدهم في الأطراف ووالدتهم تخشى عليهم من ملمات الزمن
تحقيق ــ أمل أبو القاسم
زيارة واحدة لسجن التائبات بام درمان كفيلة بأن تدفع بكمية من المتناقضات لإحساسك ، لكنها تخلص إلى الألم والوجع الذي يعتري مفاصل الإنسانية ، يكفي إنك تشاهد أنثى حبيسة الجدران بغض النظر عن الفعل أو الجرم الذي ارتكبته. و(المجهر) يومها قصدت تلك الدار بمعية منظمة (الأم ناهد) في زيارة معقود في نواصيها الخير آملين أن تؤتي أكلها ، سيما بعد القصص الموجعة التي استمعنا إليها من الغارمات أو النزيلات تحت بند المادة ( 179 ) (يبقى لحين السداد)
التقينا بنزيلات وإن كان بعضهن سيدات وأمهات ، إلا إنهن في عمر الزهور والتي بدأت شاحبة من فرط الذبول، سيدات بطريقة أو بأخرى خضن في معترك الشيكات والأراضي دون أدنى خبرة أو استعانة ، بعضهن انجرفن مع التيار وهن يحاولن حلحلة ما عليهن ، ولكن على طريقة ( طاقية ده في رأس ده) ، حتى طمح بهن الموج وبلغن المليارات ، الأمر الذي دفع بهن للسجون، فيما وقع بعضهن ضحية إحتيال من محترفين ساقوهن في طرق وعرة ثم اختفوا عند أول منعطف دون أن يتركوا أثراً.
ويلات الحبس
قصص وروايات متباينة خرجت من بين الغصة فكانت مشوبة بالدموع والتنهيد، فلا نحن ولا الباحثة الإجتماعية التي كانت تجاهد في تولى القصة عن إحداهن أحياناً استطعنا الصمود …. أمهات حبيسات تخلى عن بعضهن الأزواج ، أطفال في الخارج يعانون ويلات افتقاد الأبوين ، وثمة مخاطر مجتمعية تلوح في أفقهم، موظفات ..معلمات وطبيبات فقدن المهنة والمأوى وصحبة الأهل والولد .. القصص التالية كفيلة باستدرار العطف مع العشم في إستحلاب بضع قطرات من أضرع الميسورين .. فماذا قال هؤلاء .. وكيف تتعامل المشرفات الإجتماعيات والنفسيات لدرء آثار المشكلة ومعالجة تداعياتها داخل وخارج الدار.
تراكم المديونيات
بدأت ” ك. ع ” بسرد التفاصيل التي زجت بها في سجن النساء لحوالي السنتين وثمانية أشهر تحت طائلة المادة ( يبقى لحين السداد) ورجعت بنا إلى العام 2010م بداية الدوامة عندما أشترت قطعة أرض مساحتها (1664 ) متر بمبلغ( 90) مليون جنيه من شخص ما ومن ثم قسمتها وباعتها لأربعة أشخاص بأوراق رسمية وعند فتح التسجيل تفاجأت بأن القطعة مباعة لأكثر من( 11) شخص، فما كان من المشترين الأربعة إلا وأن فتحوا ضدها بلاغاً في نيابة الأراضي، واتهمها بعضهم بالمادة (123) التزوير، لم تقف البلاغلات ضد ” ك” عند هذا الحد فقد كان في إنتظارها بلاغ آخر بموجب شيكات حررتها على خلفية شرائها وبيعها لأجهزة كهربائية مر بعضها فيما أرتد البعض الآخر وهي رهينة المديونية وفق البلاغ الأول، وعليه فقد تراكمت مديونيتها حتى بلغت الـ(500) مليون وزيادة.
الأرقام تتحدث
ومضت ” ك” تقص علينا مشكلتها وكيف أنها إستطاعت أن تسوي جزء من المديونية فقط تبقى ليها شيك بقيمة (أربعة مليون) جنيه، وفيما يعنى بالأراضي استطاعت حل أحدهم تماماً ليتبقى ثلاثة اشخاص، الثالث منهم يطالبها بمبلغ ( 42 ) مليون جنيه دفعت منها (20) وتبقت (22) . وثاني مديونيته( 816/87)مليون تكفل ديوان الزكاة بدفع (50) منها لكنه رفض فأجرت له إعسار مؤكدة لمولانا إنها لا تملك فلس ، فضلاً عن تنفيذ آخر بالمحكمة المدنية أم درمان بقيمة (54) مليون قابل للتسوية. إذن جملة المبلغ المتبقى من الديون هو ( 22+87 + 54 ) أي (161) مليون جنيه.
لم تركن “ك” لهمومها مستسلمة فاستفادت من خبرتها ومهارتها في الأعمال اليدوية وكانت تصنع من داخل السجن الأناتيك وتسوقها داخله وخارجه و بدأبها استطاعت أن تحل أحد البلاغات بقيمة ( 25) مليون جنيه.
سألنا (ك) عن وضعها الإجتماعي ومدى تفاعل الأهل مع قضيتها، فقالت : ( والله ما قصروا معاي وباعوا بعض ما يملكون )، أما الأطفال فلديها طفلين (11 سنة وهو في معية والدها وإخوتها، و4 سنوات في صحبة جدتها).
خريجة الطب والعلوم الصحية
وعن ما إذا كانت تود مناشدة جهة بعينها لمساعدتها أو تركها مطلقة قالت : أنها تناشد كل أهل الخير وبالذات الجهات الداعمة بالرغم من انها تعيب عليهم تجاوزهم للآتي لديهن ” تنفيذ وتسليم ” والأخيرة بمعنى أن يكون لديها أكثر من بلاغ، والتركيز على صويحبات التنفيذ فقط، وفي رأيها إن هذا ليس هو الحل مبينة إنهن الآن حوالي (25 ) غارمة لديهن تسليم فهن أكثر حوجة لتخفيف ديونهن سيما إنهن لديهن أطفال تركوهم بالخارج لسنوات.
و”المجهر” تتحدث لـ” ك” لفت إنتباهها الطريقة اللبقة والكلمات الطلقة التي تتحدث بها هذه السيدة الشابة وبسؤالنا لها عن مدى تعليمها القمتنا حجراً بأنها طبيبة خريجة الطب والعلوم الصحية ومارست المهنة قبيل أن تخوض معترك الشيكات.
مليار وثلاث أرباع المليار
وهذه لا تقل عن صويحباتها في كونها خريجة من جامعة عريقة وكلية مرموقة، إذ ربما حاولت تطبيق ما درسته في ” الإقتصاد ” لكن يبدو أن الدراسة شئ والتطبيق أمر آخر مختلف فمارد السوق وطوفانه لا تجدي معه الحسابات المقننة، فها هي ” ن” ذات الثلاثين ونيف يغرقها الطوفان قبيل أن يلفظها ويلقى بها في غياهب السجون، كانت تتحدث إلينا وهي لا تنفك تلاحق صغيرها الذي تجاوز العامان ثم تعود مجدداً لحكي مشكلتها التي بدأت في 2005م مع أحداث مقتل “جون قرنق” عندما أحترق العقار الذي كانت تدير من خلاله إستثمار قضت عليه النيران، وقد أنشأته بالشراكة مع أحدهم من خلال شيكات بلغت ” مليار و750 مليون جنيه” حُبست على إثرها. وبطريقة أو بأخرى حلت المليار وأطلق سراحها، فيما بقيت الـ”75″ وبموجبها أجري لها تسليم بعد ثلاث سنوات، ثم ولحلحلة المبلغ والمشتكين أصبحت تبحث عن ديون لكن دون فائدة فلم توفق في ذلك فرجعت للحبس مجدداً.
يعفيها ويعطيها مصروفاً
ومضت ” ن” في حكيها: الآن سددت جزء كبير من المبلغ ” 450″ مليون وتبقت “300 ” مليون. مضيفة أن المشكلة الأولى جزء كبير منها تكفلت به الوزيرة ” أميرة الفاضل ” ومدير ديوان الزكاة السابق ” الفادني ” بعدها ناشدت مدير عام الزكاة ” محمد يوسف” بواسطة الأستاذة ” أميرة” وبدوره حولني للأستاذة ” مشاعر الدولب” ووعدني بالحل ووقتها كنت خارج الحبس بعدها ألقى القبض علىّ ولم أتمكن من مقابلتهم ومن هنا أناشدهم بإيفاء وعدهم، كما أناشد أهل الخير مع فائق شكري للدكتور ” الفادنى ” مدير ديوان الزكاة الأسبق، والمدير الحالي “محمد يوسف” والأستاذ “السر” مدير مكتب وزير الرعاية والضمان الاجتماعي، وأتمنى أن يكملوا جميلهم مع أهل الخير وحلحلة ما تبقى لي حتى أخرج لأولادي ورأفة بصغيري الذي يرافقني الآن.
ولـ” ن” طفلين الكبير في معية أشقائها القصر الذين تعولهم مع أطفالها لأن والدها متوفٍ والصغير عمره سنتين وشهرين وكان من المفترض تسليمه أهلها أو دور الرعاية بعد إكمال السنتين لكنها تمسكت به فاستثنتها الإدارة ليبقى معها.
ولفتت الباحثة الإجتماعية “سامية محجوب محمد” التي كانت في معيتنا أن كثير من الدائنين أعفوا عن ” ن” ليس ذلك فحسب بل أن هناك من حضر منهم ومنحها مصروفاً مراعاة لظروفها، وبدورها وبإسم إدارة السجن تشكرهم على انسانيتهم.
الدم البارد
أما ” س ” فقصتها تمزق نياط القلب، وبعد جهد إستطاع ثلاثتنا ” الباحثة وس والمجهر” من لملمة الدموع وحبس المشاعر والتفاعل الحار الذي أصابنا، وأكثر ما يؤلم إن الغارمة ضحية لشقيقها الذي دلق ثلجاً من البرود على الأوردة التي شربت من وعاء واحد فأحال الدم إلى ماء وكأنهما لم يرضعا في ثدي واحد وتشاركا الطفولة والصبا والمهد واللهو، فاستطاع وبدم بارد أن يزج بشقيقته في الحبس غير آبه بأطفالها السبعة الذين تفرقوا مفتقدين للوالدين بعد أن تخلى عنها زوجها فاصبحوا عرضه لذئاب الغاب وهم في أعمار حرجة.
وقصة ” س” المعلمة التي تم فصلها تبدأ فصولها منذ العام 2006م عندما كان شقيقها يتاجر في السيارات فطلب منها وزوجها مساعدته في تكملة أقساط وفق مكاتبة، وانتهت المدة المحددة لتسليم المبلغ ومنحت( 15 ) يوم أخرى وقيمة المبلغ كانت ” 101 ” مليون جنيه، وحتى لا أضع زوجي وهو زميلي في مهنة التدريس في وضع حرج حاولت أن أغطي على الموضوع وأتحمل المسؤولية وحل الموضوع بمفردي وإرجاع المبلغ إليه لكن النتيجة كانت أن دخلت الحراسات، وحالياً محبوسة على خلفية الديون الحالية بعد أن حللت بها القديمة.
منوال الخسارة
وطفقت ” س ” توصف رحلة الديون وكيفية حلحلتها بديون جديدة فقد باعت مرتبها لخمس سنوات وكذا زوجها، إلى جانب بيع بيتها وبيت زوجها وأمجاد كانت تضيف لدخلهم، وبحلول العام 2009م تبقت(25) مليون ووقتها كانت بسيطة، ولحلها رجعت لأهلي وإخوتي فوالدي متوفى وطلبت منهم إعطائي نصيبي من بيت والدي لكنهم صدوني متعللين بأن الديون إنتهت ورفضوا مساعدتي، ومن هنا بدأت ” س” في التخبط حتى غرقت أكثر في الديون لأنها وحتى تحل المتبقي استعانت بأحدهم وأخذت منه عربة أمجاد بمبلغ (47 ) مليون حتى تسدد ما عليها وترجع له العربة بيد أنها ــ أي العربة ــ بيعت بأقل من (20 ) مليون جنيه ، واستمر منوال الخسارة حتى بلغت الديون (181) مليون بنهاية 2012م الآن تبقت منها (162) مليون.
حشرجة الحروف
واستطردت ” س” : وغصة تسد حلقها لأن الحديث كان عن أولادها وثمة دموع تطفر عنوة كلما حاولت الإمساك بها. فقالت من بين حشرجة الحروف: طبعاً ما سدد كان من حقوقي وسبق لي مناشدة ديوان الضرائب، انفصلت عن زوجي وتزوج بأخرى وترك أطفالنا السبعة وحدهم في منزل طرفي بضاحية من ضواحي الخرطوم الطرفية، إبني البكر عمره سبعة عشر سنة ترك مقعده في الجامعة وأشتغل ” طلبة ” بينهم ثلاث بنات أكبرهن عشرة سنوات و أخشى عليها من ملمات الزمن وما نسمع عنه من قصص مؤذية خاصة أنهم في منطقة طرفية، أما إبنى المتوسط (15) سنة وهو المشرف على الطبخ وغسل الملابس لإخوته الصغار الذين يعتقدون إنني بالخلوة كلما زاروني وتتفاقم أزمتي كلما رأيتهم بملابس قذرة وقد بدأ عليهم الضعف والهزال. ثم أستدركت (لكن والله أنا خايفة على ولدي الكبير أكتر من البنات رغم أنه مسوؤل لكنه متأثر جداً للشرخ الذي حدث في الأسرة وقد تدهورت صحته تماماً، ولديّ ملف في ديوان الزكاة في الغارمين تم تحويله بتاريخ 5/5/2015م ولم ينظر فيه حتى الآن.
وعلق مكتب الخدمة على هذه الجزئية الخاصة بديوان الزكاة وقالوا إنهم يعانون من ضعف تفاعله معهم، وتمنوا لو فتحوا بينهم خط للتواصل لاستدراك الحالات الحرجة والعاجلة.