رأي

الدعوة لاصطفاف اليمين

د. على السيد المحامى

 أعلم أن المؤتمر الوطني رغم أنه اكتسح الانتخابات الأخيرة إلا أنه يعاني من أزمة ضمير (مفادها أنه حصل على أغلبية برلمانية زائفة)، فالأمر يتطلب بعض التحسينات للاستمرار في الحكم بصورة أفضل، إذ لم يعد الأمر كما كان قبل الانفصال ويواجه المؤتمر الوطني صعاباً وعقباتٍ تعجزه من استمراره في الحكم منفرداً، بالإضافة للمشكلات التي أفرزها الانفصال وما تثيره المعارضة من نقد، بالإضافة للضغط الدولي والإقليمي (العربي) الذي يزداد يوماً بعد يوم، لذلك يسعى المؤتمر الوطني بكل الوسائل نقول ثانية بكل الوسائل لاصطفاف بعض الأحزاب المعتبرة لجانبه لمشاركته الحكم (اسمياً)، ويسعى أيضاً بكل الوسائل لكي لا تكون هناك معارضة، وأخذ يتلقف ما تطرحه الأحزاب السياسية من وفاق أو تراض وطني ولم للشمل  بأنه أمر يصب لصالحه، ويصف تلك الأحزاب بأنها أحزاب وطنية  في محاولة للحيلولة بينها وبين المعارضة، ويعمل على جعلها لاهي حكومة ولاهي معارضة لتصبح هكذا بين بين، غير أن الموقف لن يدم طويلاً (وأن لكل أجل كتاباً)، وأن ما تطرحه بعض القوى السياسية من نصح ونقد وهي تفعل ذلك من (باب التدين) حيث الوقوف مع الإمام الغالب خير من الخروج عليه حقناً لدماء المسلمين.
      المؤتمر الوطني وهو يمسك بزمام الأمور لربع قرن من الزمان تبين له أن رضا  الجماهير هو رضا مرحلي (مؤقت)، وتبين له أن انفراد شريحة محددة برسم  السياسات وتنفيذها مع استبعاد باقي الأمة، وتبين له أن عضويته مهما بلغت عبقريتها وطهرها ونقاؤها وتجردها بأن هذا النوع من التجرد المستحوذ على السلطان بالقوة لا يلغي رغباتهم وتطلعاتهم الشخصية (كبشر)، إذ يصبح هؤلاء طال الزمن أو قصر طبقة حاكمة تتبادل المصالح  فيما بينها وتبحث عن مراكز للقوة بل وتبنيها خوفاً من العزل أو الزحام، وهذا ما حدث في معظم الدول ذات الحزب الواحد لهذا ولغيره اضطر  لإبعاد بعض القيادات النافذة فوق دهشة الجميع لينئ بنفسه من التعصب الإخواني الإرهابي .
       المؤتمر الوطني بعد مضي ربع قرن من الزمان في الحكم  فهو لا يرغب في مغادرته لأي سبب من الأسباب، غير أنه بعد شعوره بالعجز مؤخراً واستجابته  للضغوط الخارجية  والداخلية رأى أنه لكي يستمر في الحكم لابد من إشراك آخرين معه، لكي يتدارك عجزه باستجلاب أفكار وآراء منِ من يتم اصطفافهم لجانبه لا لإشاعة الديمقراطية والحرية كما يقول ولكن ليتغذي بأفكار وآراء جديدة إضافية لتكريس سلطته، لأن  الحزب الواحد الحاكم يظل يدور حول نفسه وفلك أفكاره التي تتجسد على الدوام للبحث عن كافة الوسائل اللازمة للاستمرار في الحكم .
     بالرجوع لحال المؤتمر الوطني اليوم نجده في أسوأ حالاته تحت الضغط الدولي والإقليمي (العربي) الذي أدى إلى إبعاد بعض القيادات المتشددة والمتمسكة بنهج الإخوان المسلمين الذين يشكلون الآن الإرهاب الإقليمي خاصة في الدول العربية،  تحت هذا  الضغط والانهيار الاقتصادي كان لابد للخضوع للأمر الواقع واستبعاد تلك الوجوه  والانفتاح على الجميع لإيجاد مخرج ليبقى المؤتمر الوطني في الحكم ولو إلى حين .
         غير أن المؤتمر الوطني بحكم منهجه وأيديولوجيته ومشروعه الحضاري لايمكن أن يمد  يده للجميع فقام باستبعاد اليسار في حواره مع القوى السياسية أو على  الأقل تهميشه في الوقت الحاضر، والاتجاه إلى ما أسماه في مؤتمر الحركة  الأخير (بأهل القبلة)، وكأن أهل  اليسار لا علاقة لهم بالقبلة فأخذ يسعى لاصطفاف القوى السياسية ذات المرجعية الدينية. وبهذا السلوك فإن المؤتمر الوطني يعمل على تفتيت الأمة إلى شقين  يمين ويسار معتمداً ومتصالحاً مع  اليمين العقدي الذي  يشكل الجبهة الإسلامية سابقاً المؤتمر الوطني والشعبي والإصلاح الآن والتي هي حقيقة الإخوان المسلمين منهجاً وسلوكاً.هذا بالإضافة لمن أستوعبهم في السابق من الجماعات الإسلامية التي تعتبر من أهل القبلة أنصار السنة والإخوان المسلمين التقليديين وغيرهم .
     أجزم أن المؤتمر الوطني  قبل خطابه الذي تلاه رئيسه رئيس الجمهورية قد التقى الأحزاب ذات المرجعية الدينية   سراً واتفق معهم على  أمور كثيرة سوف تكشف الأيام عنها، إذ لا يتصور عقلاً وعادة أن يستجيب هؤلاء لمجرد الدعوة.  أما حزب الأمة فهذا قد خرج من المسرح السياسي من زمن فرأى أنه في حاجة لاصطفاف مع أي جهة ليعود للسطح ثانية لأن الصراع في داخله أخذ في الاتساع، كما أن موقفه من السلطة يجعله قابلاً لأي اتفاق مع المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية خاصة  بعد أن ترك قوى الإجماع الوطني، فلا مانع له أن يرفع راية أهل القبلة  فهي مسرح جيد لأفكار رئيسه الذي يعتبر أنه مفكر إسلامي يمكن أن يطور فكرة  أهل القبلة وبهذا يستطيع قيادتها في مقبل الأيام.
         المؤتمر الوطني بعد ضغوط كثيرة أهمها الخارجية يود أن يغير جسده بجسد آخر ولكن ليس تغييراً جذرياً فعمد إلى اصطفاف  اليمين التقليدي (حزب الأمة) وبعض التيارات الإسلامية  الأخرى، ليبعد عنه شبح (الإخوان) فكان ذلك المهرجان الذي أعد بعناية فائقة للاستماع لخطاب الرئيس كمقدمة ضرورية لما سيأتي فيما بعد.
        عمد  المؤتمر الوطني على شق الصف الوطني ليمين ويسار واصطفاف اليمين بجانبه غير أن موقف الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل من هذه المعادلة، هو الوقوف على مسافة واحدة من اليمين واليسار فهو حزب الوسط  و صاحب دعوة الوفاق الوطني قبل أن يقول بها المؤتمر الوطني الذي يبدو أنه تراجع عنها مؤخراً، باشتراط إجراء الانتخابات في مواعيدها ورفضه القاطع لحكومة قومية أو انتقالية .
المؤتمر الوطني الآن  يمر بمرحلة حرجة نتيجة دفعه للصف الثاني لقيادة السلطة التنفيذية والتشريعية وقيادة الحزب، فهؤلاء القادة قليلو التجربة والقدرة على القيادة لما لاقاه البعض من إحباط أو ما رآه من فساد لمن سبقوه في قيادة المؤسسات الثلاث التنفيذية والتشريعية، والحزب وقد تم اختيارهم على أساس قبلي وجهوي. المؤتمر الوطني الآن  يعاني من الجهوية والعنصرية والقبلية أكثر من أي وقت مضي، ليس في إدارة الدولة فحسب بل في تنظيمه السياسي، وهذه عوامل سوف تقود لانهياره مستقبلاً، فالمؤتمر الوطني منذ البداية عمل على تذكية الجهوية والعنصرية والقبلية بحرمان الشعب السوداني من الانتماء لمؤسساته السياسية وحل الأحزاب، فلا سبيل للإنسان السوداني إلا باللجوء للجهوية والقبلية والعنصرية كملاذ للإحساس بالأمان، فهذه هي طبيعة النفس البشرية التي لابد  لها من الانتماء والاجتماع، وهذا ما أكده التقرير السياسي الذي قدم لمؤتمر الحركة الإسلامية  السابع والذي جاء فيه:  (قد  أدركت  الحركة  أن حل الأحزاب السياسية في بداية عهد الإنقاذ رغم كونه ضرورة أمنية ملحة آنذاك إلا أن آثارها كانت سيئة، لقد أدى غياب المواعين السياسية ممثلة في الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى لجوء بعض الجهات إلى التعبير عن نفسها اثنياً وجهوياً، وأسهم هذا الغياب بالتالي إلى جانب عوامل أخرى في ظهور الاثنية المسيسة التي تعد الآن  أكبر التحديات التي تواجه الدولة السودانية).
      أستطيع أن أقول لقد دلت التجارب أن الحزب الواحد الحاكم في السودان وفي جميع أنحاء العالم يتمسك بالسلطة ويتشبث بها ويقتل الناس من أجلها مهما كانت النتائج والانعكاسات. فمثل هذا الحزب تكون له قناعة شديدة بأنه يفعل ذلك لأنه يدافع عن حق من حقوقه كما نجد أنه من النادر أن نعثر على حزب واحد يحكم البلاد، إنه تنازل عن الحكم طواعية لحزب آخر نزولاً عن رغبة الجماهير.  ولو تم ذلك عن طريق الانتخابات والانتخابات  يعتبرها الحزب الحاكم وسيلة  لإضفاء الشرعية على حكمه حيث يعمل على تزويرها مهما كانت المراقبة دولية أو غيرها، لهذا يطلق المؤتمر الوطني غباراً كثيفاً على  ضرورة الاستعداد للانتخابات والوعد بعدم تزويرها وأنها ستكون حرة ونزيهة، وكذلك دلت التجارب أن الحزب الواحد لا يقبل بوجود حزب قوي آخر ينافسه على سلطته المطلقة الأبدية وإن وجده عمل على قتله .
   إن السودان بعد انفصال الجنوب أصبح مواجهاً بالمزيد من الأزمات والمشاكل  السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وأن المصلحة الوطنية العليا تتطلب من جميع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى التوصل لوفاق وطني بعد أن حّل بالسودان  وما قد يحل .
       انطلاقاً من هذه الرؤية سبق أن عقد حزبنا مفاوضات مع حزب المؤتمر الوطني حول الدستور في إطار مفاوضات حزبنا مع حزب المؤتمر بشأن المشاركة في الحكومة العريضة، وفي ذلك السياق أكد حزبنا الاتحادي الديمقراطي (الأصل) أنه على حزب المؤتمر الوطني إعادة النظر في منهجيته في إدارة  أمر الوطن والإقرار بأن حزباً واحداً لا يستطيع أن يحكم السودان بمفرده بعد التاسع من يوليو 2011، إلا إذا أراد أن يحكمه بذات الفهم الأحادي الذي انتهى بالسودان لانفصال الجنوب، وترسيخاً لتلك الرؤية فإن الوضع القائم الآن لا يتلاءم بل ويتناقض مع مبادئ وأسس وقواعد الديمقراطية التي سعى الدستور الانتقالي لسنة 2005 لإبرازها،  فضلاً عن أن التغييرات الجارية والتطورات السياسية المتلاحقة التي سادت، وتسود منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، تقتضي النظر إليها بعين بصيرة وأفق واسع حتى تتجاوز البلاد أزمتها الراهنة .

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية