الحركة الإسلامية من المهد إلى النظام الخالف (5)
على السيد المحامى
هنالك حديث مهم حول صدور قرار الحركة بحل مجلس قيادة الثورة، ترتبت عليه آثار خطيرة، نشاهد نتائجها اليوم، وهي أن رئيس مجلس قيادة الثورة السيد “عمر حسن أحمد البشير” رفض قرار الحل من حيث المبدأ، وبعد مداولات وحوارات وافق على حل المجلس عدا رئيسه “عمر حسن أحمد البشير”، بحجة أنه قائد المجلس، وهو صمام أمان للثورة ومشروعها الإسلامي (كما ذكر “عبد الرحمن عمر محيي الدين”). ويعدّ ما قام به “عمر البشير” أمراً مخالفاً لقواعد الحركة الإسلامية، رغم ذلك لم يحاسبه أحد ولم ينبهه أحد لهذا المسلك غير المنضبط، وظل محتفظاً ببزته العسكرية ولبسها مؤخراً، وذلك عندما قام بحل المجلس الوطني بخلاف الدستور، لذلك قلنا في أول الحديث إن ذلك الموقف كان له أثره فيما بعد، كما تجب استعادة ذاكرة هذا الموقف ووضعه في الاعتبار عند انشقاق الحركة الإسلامية الذي وقع عام 1999.
أستميح القارئ عذراً بأني سأذكر في هذه الجزئية تفاصيل قد تبدو مملة وسخيفة، لكنها ضرورية للوقوف على ما آل إليه الأمر اليوم، لأنه كانت له آثار قديمة أخذت تتجدد وتزداد مع الزمن، وهناك رواسب قديمة أخذت تطفو على السطح. إن مسألة إصرار رئيس مجلس قيادة الثورة على عدم انصياعه لقرار حل المجلس، والتجاوز عنه أصبحت له آثار سالبة على مجرى الأحداث في المستقبل، كما أن وفاة المرحوم “الزبير محمد صالح”، ووقتها كان نائب رئيس الجمهورية واختيار بديل عنه، كانت محل خلاف في قيادة الحركة، ففي منزل “الترابي” بالمنشية كان الاجتماع الذي ضم كلاً من “حسن الترابي” و”يس عمر الأمام” و”إبراهيم السنوسي” و”غازي صلاح الدين”، فرشح أربعة أشخاص منهم “علي عثمان” و”علي الحاج” و”عبد الله حسن أحمد” و”عوض الجاز”، وقد تم التداول حول هؤلاء واستقر الأمر في النهاية على ترشيح اثنين يختار منهم الرئيس واحداً وهما “علي عثمان محمد طه” و”علي الحاج”، غير أن “إبراهيم السنوسي” و”غازي صلاح الدين” كان رأيهما أن يكون “الترابي” هو النائب الأول دون ترشيحات أخرى، لكن “يس عمر الإمام” رفض ذلك الأمر بشدة، وقال: (لا يمكن لرئيس الحركة الإسلامية أن يكون نائباً لرئيس الجمهورية، وذلك الأمر لأن الحركة حاكمة، فكيف يأتي الرجل الأول ليكون نائباً، حيث إن الحكومة تعدّ أداة من أدوات الحركة، والأفضل ترشيح “علي عثمان” و”علي الحاج” ليُختار أحدهما). وانفض ذلك الاجتماع دون التوصل إلى قرار. وعقد اجتماع آخر موسع حضره “الكاروري” و”عبد الوهاب عثمان” وآخرون، وفي ذلك الاجتماع تم طرح اسم “الترابي” مرة أخرى، إلا أنه اعترض على الترشيح بحجة أن من تجاوز الستين عاماً يجب ألا يشغل منصباً تنفيذياً. وطرح الاجتماع ترشيح ثلاثة أشخاص يختار الرئيس أحدهم وهم: “علي الحاج” و”علي عثمان” و”الترابي”، وقدم “الترابي” الأسماء للرئيس الذي قال: (إذا ورد اسم “الترابي” في الترشيحات سأستقيل، لأنه لا يمكن أن يكون “الترابي” نائباً، أما “علي الحاج” فإن العمل معه صعب، وعليه فإني سأختار “علي عثمان محمد طه”)، ومن ثم أصبح “علي عثمان محمد طه” نائباً لرئيس الجمهورية.
إن الطريقة التي تم بها اختيار نائب رئيس الجمهورية تعدّ مخالفة للوائح، إذ لم يتم بطريقة صحيحة لأنه كان خارج المؤسسات، الأمر الذي أحدث شرخاً كانت له آثار ظاهرة. يقول البعض إن معظم الترشيحات التي تتم في بعض الأحيان بطريقة مفاجئة كانت تتم هكذا خارج المؤسسات، وهذا واحد من الأسباب الكثيرة التي أدت لخروج قيادات كثيرة من الحركة الإسلامية.
بعد حل مجلس الثورة، كوّن رئيس الجمهورية لجنة قومية لوضع دستور للبلاد، غير أنه لم يلتزم بمسودة اللجنة القومية، وقدم مسودة أخرى للمجلس الوطني الذي أجازها وهو ذلك الدستور الذي سمي دستور السودان 1998، جاء فيه الحق في التوالي السياسي، أي حرية تكوين الأحزاب، وقد أثارت عبارة التوالي السياسي جدلاً كبيراً حول المقصود منها، إلى أن عدلت بقانون الأحزاب السياسية مؤخراً، وبعد صدور الدستور انتقلت البلاد من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية شكلاً وإلى يومنا هذا، رغم أن دستور 2005 كان دستوراً ديمقراطياً احتوى على وثيقة لحقوق الإنسان، وهي من أجود الوثائق، إلا أن القوانين جميعها جاءت مخالفة لها، فلا توجد حرية تذكر حتى الآن، وظل النظام شمولياً رغم أنه أجرى انتخابات مشكوك في نزاهتها وأصبح بموجبها يحكم السودان حتى هذه اللحظة. وفي رأيي أن الحديث عن الشرعية الدستورية حديث لا معنى له، خاصة بعد التاسع من يوليو 2011.. ولا نود الخوض في هذا، لأنه سيخرجنا مما نحن بصدده.
{ المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)
لقد قامت “الإنقاذ”، وإمعاناً في إخفاء هويتها الإسلامية، عقدت مؤتمرات شكلية ودعت لها لفيف من المثقفين والمنشغلين بالمسائل محل البحث من الاتجاهات كافة، إلا أنها وضعت الضمانات الكافية لتخرج تلك المؤتمرات بما يتوافق وتوجه ثورة الإنقاذ الإسلامية.. والحقيقة أن ما خرجت به تلك المؤتمرات هو عينه برنامج الجبهة الإسلامية القومية الذي خاضت به الانتخابات الأخيرة قبل الانقلاب، مع بعض التفصيلات غير المهمة التي قصد منها (تغبيش الوعي) عن هوية الانقلاب، وأن الانقلاب العسكري جاء قومياً ومن صنع القوات المسلحة وليس له أي توجه سياسي، وهدفه هو إنقاذ البلاد من الدرك الذي أوصلته الأحزاب السياسية إليه، وللمحافظة على وحدة البلاد وسيادتها، وـنها- أي “ثورة الإنقاذ”- جاءت لتجهز القوات المسلحة لدحر قوات التمرد والتصدي للضائقة المعيشية وإيقاف التدهور الاقتصادي وإصلاح المؤسسات العامة والخدمات الصحية والتعليمية ومحاربة الفساد والتمرد، كما جاء في البيان الأول ما نصه: (فقد فشلت الأحزاب أيضاً في تحقيق السلام الذي رفعته شعاراً للكيد والكسب الحزبي الرخيص حتى اختلط حابل المخلصين بنابل المنافقين والخونة، وكل ذلك يؤثر سلباً على قواتكم المسلحة في موقع القتال، وهي تقوم بأشرف المعارك ضد المتمردين ولا تجد من الحكومة عوناً على الحرب أو السلام، هذا وقد لعبت الحكومة بشعارات التعبئة العامة دون جد أو فعالية).