رأي

الحركة الإسلامية من المهد إلى النظام الخالف (1)

المحامي “علي السيد” يكتب لـ(المجهر)

هذه المقالات ليس المقصود منها التوثيق للحركة الإسلامية، إنما هي دراسة لفكر (إخوان السودان) منذ النشأة إلى اليوم، أعني بها الجيل الجديد خاصة الذي أتى الدنيا في عهد الإنقاذ أو قبلها بقليل، موضحاً كيف تخلت الحركة عن الدعوة لله واتجهت للسلطة والجاه.
نشأت الحركة الإسلامية في السودان في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، من مجموعة من الشباب الذين وفدوا من الجامعات المصرية وبعض المنتدبين من طلاب الجامعات والمعاهد العليا،  الرافضين للفكر الشيوعي واليساري الطاغي في ذلك الوقت بالمؤسسات العلمية، إلى أن عقد مؤتمر سمي مؤتمر العيد في عام 1954 تمت فيه تسمية الحركة باسم (الإخوان المسلمين)، وهو اسم الحركة الإسلامية في مصر، ومن وقتها ارتبط فكر الإخوان المسلمين في السودان بفكر الإخوان في مصر. لكن أخذت الحركة في الاستقلال الذاتي تدريجياً إلى أن خرجت نهائياً عن فكر الإخوان العالمي كما سنبين فيما بعد.
يرى “الترابي” أنه لا تأثير لحركة الإخوان المسلمين في مصر عليهم، حيث إن البيئة السودانية كانت مهيأة لتنظيم الجماعة، ويقول “الترابي” في كتابه الحركة الإسلامية: (نشأة الحركة الإسلامية الحديثة استجابة تلقائية من الفطرة الدينية العرفية المتمكنة في وجه الاستفزاز الذي مثلته أنماط منكرة من مسالك ومقولات روجتها التوجهات الليبرالية والشيوعية في أوساط الطلاب، فلا غرو أن تداعت إلى الدين عناصره التي كانت في غمرةٍ وغفلةٍ من جنوح اليسارية أو الوطنية الليبرالية وشكلت نواة الحركة الإسلامية الأولى “حركة التحرير الإسلامي وفي اسمها إشارة لخلفيتها”).

غير أن هناك من يقول إن حزب التحرير الإسلامي الذي كان يتزعمه “بابكر كرار” كان أسبق من الحركة الإسلامية التي تحولت مؤخراً إلى (الإخوان المسلمين)، وهناك من يقول إن السيد “صادق عبد الله عبد الماجد” جاء من مصر وهو يحمل فكر الإخوان المسلمين، ويرى أنه لابد من الارتباط بفكر الإخوان في مصر والسير على هداهم، وبهذا اختلف مع “الترابي” بهذا الشأن، وهناك أقوال كثيرة ومتفاوتة حول هذا الأمر.. المهم أن الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) لم يكن لها وجود في فترة التحرر الوطني في السودان، وظهر الإخوان كتنظيم سياسي بعد ثورة أكتوبر 1964 وبعدها سموا أنفسهم (جبهة الميثاق الإسلامي)، وهي عبارة عن تحالف ضم بعض التيارات الإسلامية الصغيرة التي ظهرت عند المناداة بالدستور الإسلامي، وبعض الأفراد وقادة الطرق الصوفية الصغيرة، غير أن هذه التيارات التي انضمت كانت بطبيعتها صغيرة التكوين، صغيرة الفكرة، ذابت في التيار الإسلامي الكبير (الإخوان المسلمين) الذي أصبح يعرف فيما بعد بـ(جبهة الميثاق الإسلامي)، متخذين نفس المنهج الذي تتبعه التنظيمات والأحزاب العقائدية، وذلك لتوسيع قاعدتها الشعبية في سبيل التحول من حزب عقائدي صغير إلى حزب جماهيري كبير، وهذه واحدة من مشاكل الأحزاب السياسية في العالم الثالث.
نشأ تنظيم الإخوان المسلمين في السودان كحركة ودعوة في منأى عن الطائفية والطرق الصوفية، إلا أنهم لم يبتعدوا كثيراً عن الفهم العقائدي الولائي كطريق في استقطاب غالبية قواعد أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي، غير أنهم فشلوا في استقطابهم في تلك الفترة. يقول “الحسيني” في كتابه (الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية) عن سبب عدم دخول الأخوان للسودان في وقت مبكر: (دخلت الحركة الإسلامية السودان متأخرة بسبب وجود أحزاب دينية التوجه وأقرب إلى الإسلام الشعبي والصوفية، لذلك كانت لهذه الأحزاب شعبية واسعة ولم تتجرأ حركة الإخوان المسلمين في السودان على مواجهتها أثناء صعود الحركة الوطنية).

في فترة ما بعد الاستقلال لم تستطع الحركة الإسلامية الانتشار وسط الجماهير التي بقيت على ولاءاتها التقليدية حتى اليوم، وأخيراً اضطرت (جبهة الميثاق الإسلامي) إلى مد جسور عريقة مع الطرق الصوفية بتركيز كبير على زعماء الطرق الصوفية الصغيرة، التي لم تكن لها علاقة بالطرق الصوفية الكبيرة، واهتمت بشكل أساسي بقادة تلك الطرق، وأخذت في تلميعهم واستفادت من زعامة الطرق الصوفية والبيوتات الدينية في كسب مؤيديها، فأصبحت بهذا قادرة على التحرك السياسي نحو البرلمان والسلطة، وقد استفادت (جبهة الميثاق الإسلامي) في بداية عهدها من الانتقادات التي كان يوجهها البعض للقيادات السياسية من زعامات الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة، في الوقت الذي كانت فيه زعامة الطرق الصوفية الأخرى الصغيرة بعيدة عن تلك الانتقادات، فلما أتت الجبهة الإسلامية القومية بعد انقلاب 1989 أخذت تعمل على محو الطرق الصوفية الكبيرة التي كانت تسميها الطائفية أو التقليدية، فحلت أحزابها وسجنت قادتها، ولاقى هذا التصرف الاستهجان من الجميع، فقادة الطرق الصوفية الختمية والأنصار وغيرهم لهم مكانة لدى الشعب السوداني ليس من مريديهم، لكن من كل أهل السودان، وحتى في عهد الاستعمار لم يجرؤ المستعمر على سجن أو اعتقال قادة الطرق الصوفية.. بهذا المسلك، بعدت المسافة بين قادة تلك الطرق والحركة الإسلامية رغم وجود ما يقرب بينهم.
(جبهة الميثاق الإسلامي) رغم تمددها فشلت في أن تصبح حركة ودعوة في وقت واحد لترسيخ وجودها، لأن تكوينها يقوم على أساس ديني شامل ومن الصعب التمسك بالحركة والدعوة معاً، لهذا كانت هناك مجموعة ترى عدم الاستعجال للولوج إلى العمل السياسي، منهم من رأى أن مسألة تحويل الإخوان إلى تنظيم واسع (جبهة الميثاق الإسلامي) فيه خطورة على منهج الإخوان، لذا أصر البعض منهم على التمسك بتنظيم (الإخوان المسلمين)، وعاد إليهم البعض بعد أن ثبت لديهم أن جبهة الميثاق الإسلامي خرجت عن المنهج المنظوم للإخوان عالمياً، غير أن “صادق عبد الله عبد الماجد” عاد مرة ثانية لجبهة الميثاق الإسلامي، لكنه خرج ثانية بعد المصالحة 1977 ليعود مرة أخرى (للإخوان المسلمين)، لكن ظل (الإخوان المسلمون) هؤلاء حزباً صغيراً إلى يومنا هذا، غير أنه ظهر الآن تيار داخل الإخوان المسلمين منخفض الصوت يرى أنه من الأفضل الخروج من هذا التقوقع، والالتقاء بالآخرين في الحركة الإسلامية عموماً، والمؤتمر الوطني خصوصاً، وهذا الاتجاه يقوده بعض الذين استهوتهم السلطة أو رتعوا في جناتها  في الفترة الأخيرة مثل الدكتور “الحبر يوسف نور الدائم”، (الذي صار مرشداً بعد اعتزال زعيمها “صادق عبد الله عبد الماجد”).. و”الحبر” هذا بطبعه متردد في مواقفه الفكرية، يمضي الأمر ثم يرجع متستراً بألفاظ اللغة العربية في حياء أحياناً وعلناً تحت راية المشاركة في السلطة كضرورة اقتضتها الضرورة! الإخوان المسلمون هذا الحزب الصغير انقسم الآن إلى عدة أقسام، منها ما هو تابع للمؤتمر الوطني تبعية مطلقة وهو القسم الذي يقوده “الحبر يوسف نور الدائم” الذي تنازل مؤخراً عن الإرشادية.
الشيخ “حسن الترابي” ومن شايعه في ذلك الوقت، قدموا تنازلات كثيرة وخرقوا قواعد الحركة الإسلامية العالمية، وهو تنظيم الإخوان العالمي، وتحولوا إلى (جبهة للميثاق الإسلامي) في سبيل توسيع القاعدة الجماهيرية، واستعداداً للوصول إلى السلطة، ومن ثم سعت جبهة الميثاق الإسلامي للسيطرة على الجبهة الوطنية المعارضة لنظام مايو وقيادتها، ولما فشلت الجبهة في إزالة نظام “النميري”، شاركته الحكم، وقامت بتأسيس مؤسساتها المالية (بنك فيصل) وغيره، وتمكنت منه، وزرعت عضويتها في القوات المسلحة وفي جميع مفاصل الدولة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية