مسجد الشهيد
قلت من قبل إن خطب الشيخ “عبد الجليل النذير الكاروري” التي يقدمها بمسجد (الشهيد) يوم (الجمعة)، هي محاضرات قيمة ورفيعة في الحياة والدين. والشيخ كما كتبت هنا قبل مدة لا يزال يتمتع بغير قليل من الإبداع والتميز في تعريف وتقديم الخطيب على منابر المساجد، فهو حفظه الله في قمة حضوره الذهني والمعرفي وهذه شهادتي في الرجل ولا تزال موثقة وموثوقة، حيث يتحف المؤمنين بخطب (قمة) في كل شيء يطرح فيها التنوير بالنصح والإرشاد مستحضراً بالوقائع المشهد الآن. وميزة الكاروري والذي ظل جمهور كبير يتتبع خطبه أنه رجل معاصر وفقيه ومرشد حداثي وتعجبني للغاية مباحثه الدائمة والمستمرة في الاستنباط وعقد المقارنات والمقاربات من واقع حياة الناس وتفاصيل السيرة أو تفاسير القرآن الكريم.
بالأمس مثلاً تحدث عن ملامح من سورة (المائدة) ونصيب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وفيها كما طوف على (المسيح) والصيد والمكلبين والمعلمين. ودعا الكاروري من منبره للتفكير وتدبر المعاني ثم تحدث عن خبر الأسبوع الماضي والذي سماه بتفوق نسبة البنات على البنين في امتحانات الشهادة السودانية، وقدم شروحات نفسية وقرآنية بديعة مع استخدامات لمراجعات حول مفاهيم الجندر وما الجندر. وبالإجمال فقد لاحظت أن الحضور من المصلين يكونون في قمة الانتباه والتركيز وحقاً فإن مثل هذه النماذج للدعاة والشيوخ تعيد للمساجد والمسجدية دورها في قيادة وتأهيل المجتمع، لأن المسلم يأتي ويؤدي صلواته ويخرج وقد اكتسب إضافات معرفية وتوعية عالية وغالية.
واعتقد إمامة الناس في المساجد وتقدمهم للخطابة والعنونة للدين يجب أن تراعي خلق أرضية من التواصل بين مختلف الأجيال والمدارس، بحيث يتم الوصول إلى صناعة جيل من الأئمة والموجهين عبر المساجد يتناسب دورهم وعطاءهم والتطور الكائن بالجملة في الحياة وثورة المعلومات وانفتاح العوالم بأبعادها المختلفة، مما يلزم الداعية بأن يكون حاضراً ومؤثراً وصاحب رؤية تقدم العلم والإيمان في قالب إيماني ومعاصر. وليت جهات ما معنية بهذا الأمر تأخذ الأمر مأخذاً أكثر حيوية وظهوراً لأن بعض المساجد لا نصيب لها في كثير لا يتم الالتفات إليه وتقديره، بل وقد تحولت بعض منابرها إلى أماكن للخطب الحماسية والمحفوظات التي تردد ومصلون يقاوم بعضهم النعاس ويأملون أن تنتهي الخطبة والصلاة وهم متماسكون!
أعتقد أن “الكاروري” يقدم عرضاً لمدرسة يجب أن يكون منهجها هو الغالب والفاعل والأساسي في أمور الولاية على تثقيف أمر الناس في دينهم، أسلوب يراعي خصوصية الزمان ويجمع ما بين المعاصرة والتاريخ بأسلوب جميل ومرتب، وما أحوجنا في مثل هذه الأيام لدعاة وخطباء بمثل هذه الرؤية العميقة والبعيدة لأنها وحدها القادرة على مخاطبة قطاعات واسعة من الناس، والتأثير إيجاباً عليهم في ظل استقطابات عريضة ومتنوعة لأفكار كثيرة وافدة أو تبحث لها عن مراكز ومحاضن في البيئة السودانية الآن.