حوار "الخرطوم" و"واشنطن" بين المتفائلين والمتشائمين
من “كرتي” إلى “غندور”.. التطبيع يصطدم بازدواجية المعايير
تقرير – نجدة بشارة
لم تمضِ سوى سويعات قليلة على البيان الصادر من وزارة الخارجية (شديد اللهجة) المناهض لقرار أمريكا بإعادة تجديد العقوبات على السودان، وليبقَ بموجبها السودان ضمن القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب، حتى فاجأت الخارجية الرأي العام بإعلانها توقعاتها بوصول وفد رسمي من الولايات المتحدة للبلاد في غضون الأيام القادمة، للحوار حول العلاقات بين واشنطن والسودان. وأكد وزير الخارجية “غندور”، خلال تلك التصريحات، أن الحوار مع أمريكا لم يبدأ بعد.. وأنهم بصدد استقبال وفد منها في أي وقت، وعقب الاتفاق بين الطرفين على الوقت المناسب لكليهما.
في المقابل مازالت أمريكا تذهب في ذات الاتجاه وتصر على الزج بالسودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، على الرغم من المساعي والجهود التي بذلها وزير الخارجية “غندور” في زيارته لواشنطن سابقاً، ومحاولته لإيجاد منطقة وسطى يلتقي عندها الطرفان لإعادة المياه إلى مجاريها.
ثم ما أن بدأت الآمال تسير عراضاً وتطلق الأمنيات التي ولت إلى نقطة الرفع الجزئي للعقوبات مجدداً لتعود وترفع العصا عالياً في وجه السودان، في الوقت الذي يعد السودان العدة من جانبه، ويهلل لوصول وفد رسمي منهم للتحاور على ملف تطبيع العلاقات بين البلدين.
وهو ما كان موضوع نقد وزير الخارجية بروفسور “إبراهيم غندور”، الذي انتقد مسألة التجديد واعتبرها ازدواجاً في المعايير. وحسب خبراء فإن الخرطوم ستدخل في نفق مظلم مع واشنطن بسبب عدم قدرتها على المناورة، وإيجاد لغة حوار مناسبة تتواءم مع السياسة الأمريكية.. خاصة وأن الخطر المفروض على السودان صادر من الكنغرس، وهذا يعني أن الوضع يحتاج إلى التراضي السياسي للأطراف في الكونغرس، وربما احتاج إلى وقت أطول حتى تتغير السياسات العدائية تجاه السودان.
{ مبررات خفية
ويرى المحلل السياسي د.”إسماعيل الحاج موسى” في حديثه لـ(المجهر)، أن هنالك مبررات خفية لا تصرح بها أمريكا علناً وتستند عليها لعداء السودان. وقال إن المسوغات التي تقدمها علناً غير مقنعة، وأن السودان استوفى الشروط اللازمة لرفع اسمه عن قائمة الإرهاب إلا أن التطبيع مع أمريكا ظل غير موضوعي. وقال”إسماعيل الحاج موسى” بعدم تفاؤله من الحوار الأمريكي السوداني، والوفد القادم الفترة القادمة، واستدرك قائلاً: لكن ذلك لا يعني تجاهلنا لأهمية أمريكا كدولة عظمى لا نستطيع أن نناطحها.. فإذا تقدموا خطوة واحدة، ذهبنا خطوتين اتجاههم. وحسب اعتقاده فإن المناخ السياسي بالداخل والأجواء السياسية المتكونة حديثاً بالبلاد من إجراء الانتخابات، وتشكيل الحكومة الجديدة لا تنطوي على أي مؤشر سلبي تجاه موقف أمريكا الذي كان يبدو أكثر نعومة سابقاً، عقب دعوة وزير الخارجية السابق “علي كرتي” لزيارتها.
وقد سبق أن تعهد مساعد وزير الخارجية الأمريكي للديمقراطية وحقوق الإنسان “استيفن فيلدستاين” باستمرار الحوار البناء بين واشنطن والخرطوم، إلا أنه قد رهن ذلك بتحسين الأوضاع المتدهورة في دارفور، وقف الحرب في منطقتي جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وإيصال الإغاثة للمتضررين والنازحين وحمايتهم، وكفالة حرية الاعتقاد، لكن وزير الخارجية السابق “علي كرتي”، قد أكد – من جانبه – وجود حوار جاد وموضوعي. وقال إن الحوار يسير ببطء وليس بالسرعة المطلوبة. وأردف: (لكني أرى أننا فعلاً على عتبات الحوار، والنظر إلى القضايا بصورة أوضح من ذي قبل).
{ أمريكا في مواجهة الشعب
في ذات الاتجاه نشط مؤخراً وفد من رجال الإدارة الأهلية وزعماء قبائل سودانية توجه إلى أمريكا في إطار مبادرة اتسمت بالشعبية، قادها رجل الأعمال السوداني “عصام الشيخ” لحث الإدارة الأمريكية على رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وضم الوفد (14) ناظراً من نظار قبائل السودان، عقد لقاءات مع الكونغرس والخارجية الأمريكية. وأكد المتحدثون باسم الوفد أن الكونغرس قد استمع إلى طلباتهم.
{ مجرد (قولة خير)
ويرى بروفيسور “حسن مكي” الخبير الإستراتيجي والمفكر الإسلامي أن الخطوة لا تعدو أكثر من (قول خير) لوزير الخارجية الجديد، وأن الوفد الأمريكي المتوقع وصوله قد يأتي في إطار المراجعات، وليس لجوهرية الأحداث، ولا أتوقع وجود شيء أساسي لتبني عليه أمريكا حوارها.
ولكن هذا لا يقلل من أن السودان خطا خطوات واسعة في ملف دارفور، وأصبحت الأوضاع أكثر تحسناً، وهذا قد يكون مؤشراً جيداً بجانب الحوار الجاري في الخرطوم، مع الحركات المسلحة. كل ذلك من شأنه أن يعزز موقف الخرطوم تجاه أمريكا.. هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار انفتاح السودان مؤخراً تجاه دول الخليج ومصر.
{ قفزة في مسار العلاقات
واعتبر عدد مقدر من المحللين أن زيارة وفد رسمي من أمريكا قفزة عالية في مسار العلاقات بين الدولتين، يجب أن يستغلها السودان لتصحيح صورته أمام أمريكا.. خاصة وأن السودان بدأ يخطو خطوات جادة نحو تطبيع العلاقات الخارجية، لاسيما مع دول الخليج وانفتاحه على العالم الخارجي والذي من شأنه أن يجد صدى إيجابياً لدى المجتمع الدولي.. هذا بجانب التغييرات الكبيرة التي بدأت داخل الحزب الحاكم مؤخراً بضخ دماء جديدة، والتغييرات التي ظهرت مؤخراً بجانب الحوار الداخلي بمختلف مساراته .. ومد الأيادي البيضاء للحوار مع حاملي السلاح حسب حديث رئيس الجمهورية مؤخراً. كل هذه الأجواء السياسية والمناخ السائد لا بد وأنَّ له ما بعده.. وسيكون له صداه على المدى القريب والبعيد.
{ دبلوماسية ناعمة
رغم المتفائلين من الزيارة ومخرجاتها إلا أن بعض أصحاب الشأن السياسي من المتشائمين، يرون أنه ليس من السهل أن يحدث تطبيع بين أمريكا والسودان، لأن القرار برمته ليس بيد البيت الأبيض، بل تحمله جهات أخرى وأن هذه الزيارة لن تحسم العداء الذي تراكم لسنوات طويلة.
وأن العلاقة مع الولايات المتحدة علاقة أفسدتها السياسة في المقام الأول على خلفية المواقف الأمريكية، تجاه النظام الحاكم بالبلاد، وهذا يتطلب من الحكومة السودانية التعامل بدبلوماسية ناعمة وحذرة، ليس لإرضاء أمريكا فقط ودائماً، وإنما لرعاية مصلحة البلاد العليا.