عندما تصبح (ست الشاي) وزيرة صحة فقط لأغراض هذا الاحتفال!!
حدثتكم أمس الأول عن تقديس (التراتبية) واحترام الأول، والسابق، والكبير في المجتمع الهندي لدرجة أن طالب (سنة أولى جامعة) يهب واقفاً من مقعده إذا مر بمكان جلوسه أحد طلاب (سنة ثانية) أو (ثالثة)!! وقارنت المشهد بالسودان .. ولقيت الفرق شاسعاً !!
قبل يومين احتفلت صحفنا بخبر افتتاح (ست شاي) لغرفة عناية مركزة للأطفال، أشرف على تشييدها شباب مبادرة (شوارع الحوادث) بالخرطوم الذين ظلوا يرابطون بذلك الشارع جوارأقسام الطوارئ بمستشفى الخرطوم، يجمعون التبرعات من عامة المواطنين، ورجال ونساء البر والإحسان لشراء الأدوية ومساعدة المرضى المعسرين .
المبادرة في حد ذاتها لا غبار عليها وتستحق الدعم والمؤازرة، وتشجيع قيام مبادرات شبيهة جوار كل مستشفى ومركز صحي بالسودان .
لكن إصرار هؤلاء الشباب المتحمسين على تقديم إحدى خالاتنا المحترمات من (ستات الشاي) بالشارع، وهي من كانت تشكل (بنابرها) قاعة اجتماعات ومركز قيادة للمبادرة، تقديمها لـ(قص شريط) افتتاح الغرفة بمستشفى “محمد الأمين حامد” للأطفال، إنما يعبر بوضوح عن (حالة الرفض الشامل) وعدم الاعتراف بأي كبير في هذا المجال، وزير أو مدير، أو اختصاصي علم في مجال طب الأطفال، أو رمز اجتماعي ناشط في عمل الخير، أو أكبر المساهمين في بناء الغرفة موضوع الافتتاح، كل هؤلاء وغيرهم لا يمثلون شيئاً عند هذا الشباب (الرافض لكل شيء) أو هكذا بدا لي!!
ولهذا جاءوا بالسيدة الفاضلة (ست الشاي) لتقص الشريط في سابقة خطيرة تهدد بنسف أي فكرة لمشروع (تراتبية محترمة) في السودان، كما هو الحال في جمهورية “الهند” نتجاوز بها ضغائن ومرارات، وآثار صراعات الانتماءات والولاءات السياسية والفكرية الطاحنة.
تسقط السياسة .. ويذهب (الكيزان) و(الشيوعيون) و(الأنصار) و(الختمية)، ولكن يبقى وزير الصحة هو وزير الصحة، وكبير اختصاصيي الأطفال هو كبير الاختصاصيين .. يبقى المنصب ويمضي الشخص، لتستقر معايير الأمة ومقدساتها وثوابتها التي لا تتأثر بالمتغيرات.
ولا أدل على ما ذهبت إليه من أن وزير الصحة الاتحادي الحالي “بحر أبو قردة” كان من أبرز قادة حركات التمرد المسلح في دارفور، وإذا به اليوم رئيس حزب سياسي مشارك في الحكومة .
قد تبدو فكرة شباب شارع الحوادث مدهشة للبعض ولافتة، وقد يكون مبعث ابتداعها التقدير والتوقير لهذه السيدة الفقيرة النبيلة التي بدأت علاقتها معهم عند مرض طفلتها وملازمتها لها بمستشفى الخرطوم، ثم خروجها لبيع الشاي جوار المستشفى لتكملة تكاليف العلاج، قد يكون ..، ولكنني بصراحة استشعرت في ثنايا الفكرة (حالة رفض) صادمة ومقلقة، أكثر من نموذج وفاء وعرفان وتبجيل لشرائح ضعيفة!
هي في الغالب (حالة هتافية) ناعمة وصاخبة في ذات الوقت، ولم تستطع أكاليل زهور الاحتفال المتناثرة في المكان التغطية على تفاصيل ذلك المشهد العبثي .
وربما كان مقبولاً بل ورائعاً أن يتم إطلاق اسم تلك السيدة أو طفلتها على غرفة العناية، فتكون غرفة الحاجة (فلانة الفلانية للعناية بالأطفال)، دون حاجة لتزايدات قص الشريط .
إن الأمة التي تضع ست الشاي مكان وزير الصحة، ووزير الصحة محل ست الشاي، مع أن بناء الغرفة ما كان ليتم لولا موافقة الوزارة وسلطاتها المختصة، أمة لا يمكنها أن تتقدم شبراً إلى الأمام في ظل هذا النظام أو غيره من أنظمة (الثوار)!!
أنا لا يهمني هنا السيد “بحر أبو قردة” أو الدكتور “مأمون حميدة”، ولكن تعنيني المحافظة على القيم العامة، والمبادئ الأساسية الحاكمة لمنظومات المجتمع والدولة، لتكون دولة محترمة .. دولة مؤسسات راسخة، لا دولة أحزاب .. وحركات .. و جبهات .. وقبائل.