{ دردشة مع الفريق "نور الهدى الشفيع" أول امرأة تتقلد وظيفة مدير عام للمصحات في السودان
على خلفية تطور وزيادة المرض والمرضى النفسيين
{ أول زيارة كانت إلى “مدني”.. والمرضى في (حوش) ومظلة ومربوطون على الأوتاد
{ لم تك هناك مقومات العمل الطبي أو الإداري أو النفسي.. ولجأنا في تلك الفترة للخيرين
{ (50) مليون جنيه من ” عبد الرحيم حمدي ” كانت كافية لتوفير الدواء في كل السودان
{ لا أستطيع القول على من تقع مسؤولية المرضى بالشوارع.. لكن الدولة ولي من ليس له ولي
{ بعد أن كانوا أس المشكل.. تعاون من بعض الشيوخ بتحويل المرضى النفسيين للمشافي
حوار – أمل أبو القاسم
قيل والقول على ذمة استشاريي الطب النفسي والعصبي إن السودان الدولة الأولى على مستوى العالم العربي في المرض النفسي، وما يشاهد في الطرقات ونقاط المرور الرئيسية يعزز ذلك، حيث إن المرضى النفسيين الذين يجوبون الشوارع والطرقات يشكلون ظاهرة حديثة عهد، ورغم أن المرض النفسي موجود منذ حقب فائتة، إلا أن زيادة مطردة تشهد بها المشافي والعيادات الخاصة بهم وعيادة مستشفى البروفيسور “التيجاني الماحي” وحدها تستقبل فوق الـ(150) مريض يومياً. والمؤسف أن هذه الزيادة تقابلها ندرة في عدد الكوادر المؤهلة وكذا المشافي والمصحات. وللحديث عن هذه الزيادة والمرض النفسي عموماً جلسنا إلى سعادة الفريق “نور الهدى محمد الشفيع” وهي أول امرأة سودانية ترتقى الى هذه الرتبة، فضلاً عن كونها أول امرأة تتقلد وظيفة مدير مصحات السودان. ولكل هذا آثرنا الحديث معها والطواف حول الموضوع وتقليب كافة جوانبه على خلفية توليها أمر المرضى على مستوى السودان، فكان حديث الذكريات الذي أنجب الحاضر.
{ كيف كان تدرجك في الدراسة؟
ــ درست جامعة الإسكندرية (طب وجراحة)، ثم تخصصت في الطب النفسي جامعة (الخرطوم) منتدبة من وزارة الصحة، ثم اختصاصي الطب النفسي في مستشفى (الشرطة) و(مصحة كوبر)، ثم في دائرة مكافحة المخدرات رئيساً لقسم الإدمان، وكنت منتدبة من (وزارة الصحة) بخصوص ترقية الأداء والعمل في (مصحة كوبر)، ووقتها كانت تسمى مستشفى (الأمراض العصبية والعقلية).
قررت أن أعمل كطبيبة وبسبب تبرعات كانت ترد إلينا كان انتدابي إلى (مصحة كوبر)، ومن الخيرين الذين أسهموا في هذا الانتداب المهندس الدكتور “حسن يس” والدكتور “حسن محمد علي” له الرحمة.
ــ منذ متى وأنتِ تعملين في حقل الطب؟
{ ظللت أعمل كطبيبة حتى 1995م، أحمل كيساً به الدواء وآخر به احتياجات المرضى، حتى إنني وفي كثير من الأحيان أحمل كيسين بهما مكانس وأدوات نظافة، وأعتقد أن هذه المرحلة أصعب مراحل عملي.
{ كيف كانت بيئة السجون وقتها؟
– المباني كانت عبارة عن زنازين بعضها لا يقي المريض حتى من هجير الشمس، والجميع يفترشون الأرض، وأيضاً كان أكثر من ثلثهم لا يرتدون الملابس حفاظاً على أرواحهم.
{ وماذا فعلتِ حيال هذا الوضع؟
– كنت أحاول بكل ما أملك الاتصال بالجهات الرسمية وغير الرسمية في محاولة لتغيير الوضع، وفي عام 1998م تم تعييني مديراً للمصحات في السودان، ولم تكن هذه الوظيفة موجودة وقتها فكنت أول من تقلدها.
{ إذن هو تكليف شاق سيما أنك امرأة والمهمة -بما أنها الأولى من نوعها – تتطلب التزاماً وصبراً وصموداً.. كيف استطعتِ تجاوزها؟
– بالفعل كانت مهمة شاقة وصعبة، أهمها إنني يجب أن أزور كل المصحات في السودان، وبالأصح المرضى الموجودين في كل السودان، وأذكر أن أول رحلة لي كانت زيارة (سجن مدني)، ووجدت أن المرضى موضوعون في (حوش) ومظلة، وهم مربوطون إلى أوتاد، أي أن الوضع لا يختلف عن (مصحة كوبر) كثيراً، وفي تلك الزيارة قابلت الوالي، وقتها ، “الشريف بدر” وطلبت منه مقراً يسمح لنا ببناء مستشفى، وبدوره لم يتردد في إعطائي مبانٍ في “حنتوب” تابعة للشؤون الاجتماعية، خصصت للمشردين لكنها كانت فارغة.. وحدث التالي: أولاً تمت إضافة وتحسين ذاك المبنى وتحويل أولئك المرضى، ثانياً تم تعيين ضابط ومدير لهم وتمريض وصيدلية وعلاج، لكن الوضع لم يخرج بالصورة المطلوبة، وكانت هناك لجنة للصحة النفسية تم تفعيلها بواسطة الوالي وبرئاسة مولانا المرحوم “حسن علوب”، وكان مبنى المستشفى الجديد هو أهم إنجازات اللجنة، فضلاً عن أنها كانت تمول مستشفى (مارنجان).
{ هل ثمة مدينة أخرى؟
– نعم.. بعدها كانت زيارتي لـ(مستشفى القضارف)، وأيضاً اتصلنا بالوالي وقد كان هناك مبنى تابع للاجئين في “أم قلحة”.. أصبح هذا المبنى يضم المرضى النفسيين بإشراف طبي مؤهل، ثم قمت بزيارة “كسلا” وكانت أحسن حالاً والمباني بحالة جيدة، ومع ذلك تفتقر للعناية الطبية ، مثلما تحتاج لتوفير الدواء، وكانت هناك شكاوى من تحويل المريضات النفسيات من “البحر الأحمر” إلى “كسلا” بالرغم من وجود مصحة فيها، لكن لم يكن بها قسم للنساء. وفي “البحر الأحمر” كانت مباني مصحة (سلالاب) بـ”بورسودان” بحالة جيدة تنقصها بعض الأشياء والرعاية الطبية، إضافة إلى عدم وجود عنبر للتنويم المغناطيسي.
{ حسناً وبعد الوقوف على كل تلك الإشكالات.. كيف تمت المعالجة؟
– كانت لدى خطة عمل داخل المصحات، أن اجتمعت بالعاملين فيها لمعرفة الحالة إدارياً وفنياً، وكانت هناك مشكلة كهرباء ومشكلة وجود عنابر ومظلات، وعدم وجود أسرة للمرضى وملابس، والأخيرة شكلت الهم الأكبر إذ كان لابد من تعليم المرضى التعود عليها، أيضاً عدم وجود مال للتسيير.
{ هذا يعني أن المهمة كانت شاقة في ظل ما ذكرتِ من وضع؟
– نعم.. فلم تك هناك أية مقومات للعمل الطبي أو الإداري أو النفسي، وكانت الخطة آنية لكنها ستتواصل وبعيدة المدى، حيث لجأنا في تلك الفترة للخيرين، وأبدوا استعدادهم وظلوا على اتصال دائم، على أن أول عمل كان توفير صهريج للمياه وتصريح للكهرباء وأسّرة وبطاطين.
{ تحدثتِ عن خيرين.. أين الجهات الرسمية من كل ذلك؟
– في هذا الجانب كان أول اتصال لي بالسيد وزير المالية الاتحادي. وخصص لي مبلغاً كان فقط يغطي مرتبات المتعاقدين في (المصحة)، لكن وباتصالي بالوزير السيد “عبد الرحيم حمدي” وبشرحنا الوضع له مدنا بمبلغ (50) مليون جنيه هذا المبلغ خصص لشراء الدواء لجميع المرضى في السودان داخل السجون وفي المصحات.
{ وماذا عن الزنازين سيما أنك أشرتِ إلى أن بعض المصحات كانت تربط المرضى في (الحوش)؟
– حاولت جاهدة تغيير وضع الزنازين بأن تكون لكل اثنين غرفة، بإزالة الحائط وعمل شباك ووضع ثلاثة أسّرة، أيضاً جمع كل عشر زنازين بإزالة الحوائط وأصبحت سعة العنبر عشرين مريضاً وعدداً من الغرف، وأصبح للمرضى أسرةّ وغرف وفريق متكامل للعلاج ووفرة في الدواء، وحاولت أن تكون العقاقير من الأنواع المعروفة عالمياً وقد ساهمت معنا بعض الشركات بتخفيض كبير.
{ هل شمل ذلك كل الولايات؟
ــ ذلك كان هو الحل الآني، وبالنسبة لبقية المصحات في الولايات ، فقد قمت بإدخال مدرسة المساعدين الطبيين النفسية في حال عدم وجود طبيب نفسي مختص للإشراف على العلاج.
{ برأيك ما هي أهم زيارة قمتِ بها وكان لها وقع خاص لديك؟
ــ كانت زيارتي لـ”الفاشر” سجن (شالا) شمال دارفور، وفي معيتي مدير السجن والضباط، وبمعاينة المرضى كانت الحالة النفسية لهم متردية وثمة ضعف ظاهر على بعضهم حد أن بعضهم يتبول داخل الزنزانة، فقمت بإجراء ملفات طبية وكتبت أنواع الدواء اللازم وشرحت للممرضة كيفية إعطائه، ومن الخرطوم أرسلت باحثاً نفسياً ليكون هناك.
{ هل أثمرت هذه المعالجات؟
– نعم.. وأنا لا أنسى ما حدث عند زيارتي السجن للمرة الثانية لمعاينة المرضى فقد اصطفوا لتحيتي، وكنت أتلقى من كل مريض ورد الريحان، وفي المرة الثالثة عبر زياراتي المتوالية تعاقدت مع المرحوم البروفسور “إبراهيم عوض” الأستاذ بـ(جامعة الفاشر) للإشراف الطبي على هؤلاء، كما شملت زياراتي كلا من “الأبيض” و”نيالا” و”جوبا”، وعبر زياراتي تلك استجابت بعض الولايات للمعالجة فيما لم تستجب أخرى.
{ هل كانت الكوادر الطبية وقتها كافية ومؤهلة؟
– كان عدد الممرضين في المصحات تسعة تخرجوا ورجعوا إلى ولاياتهم للإشراف الطبي على المرضى داخل السجون، والمؤسف أن مدرسة المساعدين لم تستمر في (التيجاني الماحي).
ظل حاجز تغيير المباني وتغيير اسم المصحات وتبنيها للخدمات الطبية هاجساً وعملاً شاقاً، لكن وبمساعدة وقرارات تبعيتها للخدمات الطبية 1994م سهلت كثيراً من المهام، وظل اسمها المصحات وتوجد في قانون السجون بهذا الاسم.
ــ إذن كيف ومتى تم تغيير اسمها؟
{ تم ذلك بقرار من وزير الداخلية وتوصية من دائرة المصحات وتغيرت أسماء المصحات إلى مشافي نفسية. وبالنسبة للعمل الإداري والفني والطبي والملفات الطبية قد اكتمل وأصبح لكل مريض ملف طبي وتوفر العلاج وتوفرت الرعاية النفسية الاجتماعية، وأصبح الاتصال بأهل المرضى وزياراتهم أهم الإنجازات وقتها.
{ هل واجهتك مشكلة بعد الأوضاع الجديدة.. وهل كان عدد المرضى كبيراً؟
– كان عدد المرضى الذين أدخلوا بمواد جنائية كبيراً ومكوثهم داخل المصحة طويلاً، فكان لابد من عمل لجنة ومراجعتهم وكتابة تقارير لأولئك الذين يتمتعون بحالة صحية جيدة، ومعالجة البقية حتى يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم، ومن هنا أرسل التحايا للدكتور اللواء “عبد المنعم يوسف”، فقد كنا معاً في تلك اللجنة واستجابتهم كانت فورية ومعاونتهم في الفحص والتشخيص والمثول أمام المحاكم بطيبة خاطر.
{ هذا ما كان بشأن مرضى الحقب الفائتة.. الآن المرضى يجوبون الشوارع بصورة مزعجة.. على من تقع مسؤولية هؤلاء؟
– لا أستطيع القول على من تقع المسؤولية، لكن الدولة ولي من لا ولي له، وإن كانت له أسرة فالمسؤولية تقع على عاتق الأسرة، وقد كان هؤلاء يحضرون إلى المصحة ويبلغ المواطن وأحياناً شرطة أمن المجتمع وكان يسمى بمريض النظام العام، وبعد شفائهم يتصل بذويهم. لكن أي مريض نفسي مصاب بمرض مزمن قديماً يجب أن يكون علاجه متواصلاً، وللمؤسف إن بعض المرضى بعد تسليمهم لذويهم يصابون بالانتكاسة لتركهم العلاج وهذه أكبر مشكلة تواجه المرض النفسي.
{ إلا ترين ضرورة وأهمية إنشاء دور رعاية اجتماعية لإقامة المرضى بها ؟
– لا أنصح بذلك، لكن أتمنى أن تزداد التوعية والإرشاد بين الأهل، ومن له أحد الأقارب يحتاج إلى الرعاية الطبية النفسية أن يواصل العلاج وأن يهتم بالمريض.
{ ربما كانت لجوء بعض أسر المرضى للشيوخ واحدة من الإشكالات التي تفاقم من المرض.. ماذا أنتِ قائلة في هذا الأمر؟
{ اللجوء للشيوخ والمسيد هي المشكلة الأساسية في هذا البلد، فبعد أن يصبح مريضاً نفسياً ويزيد المرض يأتي للعلاج، لكن تلاحظ في الآونة الأخيرة وجود وعي وتعاون من بعض الشيوخ بتحويل المرضى النفسيين للمشافي ويوجهون أهله بذلك.
{ هل توجد إحصائية دقيقة بعدد المرضى سيما أن هناك أحاديث بزيادة مضطردة في أعدادهم؟
– الآن إذا حاولت عمل إحصاءات، فالمادة موجودة وفي فترات لم تك هناك ملفات، الآن هناك بحوث يقوم بها طلاب الدكتوراة، وفي القريب العاجل ستكون لدينا المادة المطلوبة في هذا المجال، وليست لدي إجابة بعدد المرضى.
{ هل نختلف في طبيعة المرض عن بقية العالم والعربي تحديداً؟
– لا نختلف عن العالم لا في طبيعة المرض ولا تصنيفه، وما يميزنا أننا نهتم بالمريض النفسي إلا قلة، وربما النزوح وحضور المريض من ولاية لولاية يتم دون علم الأهل، وظاهرة انتشار المرضى النفسيين في الشوارع أظنها إهمال من الأسرة أكثر من كونها نزوحاً من ولاية لولاية.
{ هل للوضع الاقتصادي دور في هذه الزيادة؟
– يمكن زيادة الاكتئاب في المجتمعات الخارجية والسودان ليس بينها، لكن إذا قلنا ازداد المرض النفسي بين الشباب فأعزو ذلك للمخدرات و(البنقو) من دول الجوار (الشاشمندي) وأحذر منها الشباب.
{ خلال فترة عملك في (مصحة كوبر) هل أتتكم نساء بمشاكل ترجون حلها؟
– في مثل هذه المواقف يكون المبلغ أهلهن خيفة أن تؤذي نفسها أو غيرها.
{ ألم تتعرضي طيلة فترة عملك لأي مشكل اعتداء من قبل المرضى؟
– ما يهمني أنني وصلت لحالة من الرضا من جميع المشافي النفسية في السودان وكان أهمها ما حدث من تغيير كبير في مستشفى (عبد العال الإدريسي) عززتها العلاقة الطيبة التي كانت بيني والبروف “عبد العال”.
بالنسبة للمشاكل فعلاقتي بالمرضى وأهلهم كانت طيبة، وأذكر أنه وبعد فترة من اعتداء أحدهم عليّ حضر أهله يحملون توصية من جهة عليا، وفي البدء اعتقدت أن ثمة شخص يريد الدخول، لكني فوجئت أنهم يسألونني هل تعرفت عليه، وبعدها عرفت أنه الشخص الذي اعتدى عليّ، وأن يصاب طبيب أو ممرض من مريض فهو أمر وارد ويوجد ما يسمى (بدل الخطر) في المشافي النفسية العامة، وحاولت أن أدرج ذلك عبر الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين” لكنه أوقف.
{ عندما جلستِ على كرسي إدارة مستشفى (التيجاني الماحي) كانت تعاني تصدعاً إدارياً وغيره.. ماذا فعلتِ بشأن ذلك؟
– لم يكن في توقعاتي أن آتي مستشفى (التيجاني الماحي)، لكن وبمجرد وصولي وجدت استقبالاً حافلاً من العاملين فيها وكان ذلك في رمضان الفائت، وكان أول ما فعلته أن اجتمعت بهم لحل المشاكل فوراً، فهناك ما يمكن التغلب عليه والعكس، وبدأت بتوفير احتياجات شهر رمضان من كيس الصائم وزيادة حوافز العاملين وفتح باب المدير لكل من يريد أن يقابله في مشكلة، ثم اجتمعت مع الاختصاصيين والإداريين وما زلنا نجتمع ونتناقش حتى الآن لتطوير هذا الصرح الذي يحمل اسم أبو الطب النفسي في العالم العربي.