هل أصبح وجود رئيس للوزراء فريضة غائبة؟
حديث السبت
يوسف عبد المنان
المعارضة وحصاد رماد الانتخابات
(136) شهيداً و(140) جريحاً حصاد جنوب كردفان من الانتخابات
السلام ما زال بعيداً والمستقبل شديد الظلام
انقضت الانتخابات عشية (الخميس)، وبدأت بـ(الجمعة) أمس عمليات فرز الأصوات. وتعلن اليوم وغداً النتائج الأولية.. ويعيش السودان أسبوعاً من الترقب والانتظار بعد مخاض عسير لانتخابات شغلت الدنيا وسالت فيها دماء، وأنفقت الخزانة العامة مليارات الدولارات في سبيلها.. وإذا كانت الانتخابات، كعملية فنية، قد مضت دون مكدرات تذكر.. لكن الانتخابات، كعملية سياسية، جرت في ظروف استقطاب شديدة، بين المعارضة المدنية وحليفتها المعارضة المسلحة من جهة، وبين الحكومة وشركائها السياسيين وحلفائها شبه العسكريين من الحركات التي وقعت على اتفاقيات سلام في دارفور وكردفان وانخرطت في العملية السياسية، حتى قبل أن تؤهل نفسها لمثل هذا الاستحقاق.. وطبقاً لمؤشرات القوة الجماهيرية والجاهزية والقدرة على الإنفاق فإن المؤتمر الوطني سيحصل على نحو (60%) من مقاعد البرلمان القومي.. ولن يجد “البشير” منافساً يحصل على (10%) من جملة الأصوات، وقد دخل “البشير” حلبة التنافس لكنه على يقين بأن “شعيب” و”البارودي” و”الصوفي” أعجز عن منافسة “السميح الصديق” و”علي كرتي” و”الكاروري” في الدوائر الجغرافية، دع منافسة “البشير” على مقعد الرئاسة.. وبانقضاء الانتخابات التي قاطعها من قاطعها وأقبل عليها من أقبل بات السودان على أبواب مرحلة جديدة أو ينبغي أن يكون كذلك.. فما الذي يتوقع حدوثه في مقبل الأيام؟ وكيف كسب “البشير” الجولة؟ وهل يعتزم الرئيس إجراء تغييرات في سياسات حكومته؟ أم أنه ليس ثمة جديد يذكر ولا قديم يعاد؟؟
{ حصاد الرماد
لم تحصد فصائل وأحزاب المعارضة من حملة مقاطعتها للانتخابات سوى كشف حالها.. ورفع الغطاء عن جسدها الهزيل.. ويكفي شهادة على ذلك، فشل دعوتها لاعتصام بدار حزب الأمة عشية بدء الاقتراع، وقد توافد نحو ثلاثمائة فقط من القيادات والقواعد لكل قوى التحالف لتنفيذ الاعتصام في دار حزب الأمة.. وحينما اكتشف دعاة الاعتصام أن الخطوة فاشلة، وإن هم اقبلوا ستكشف ظهرهم.. لكن ساعدتهم الحكومة بإلقاء القبض على بعض الناشطين والتحقيق معهم.. وقد أهدرت المعارضة فرصة المشاركة في الانتخابات وتشكيل تحالف برلماني من داخل قبته.. واختيار زعيم للمعارضة يعبر عنها.. ويقول كلمته في كل قضية، مثلما فعل الدكتور “إسماعيل حسين” ممثل المؤتمر الشعبي في البرلمان المنتهية ولايته.. ولو أقبلت الأحزاب المعارضة جميعاً على الانتخابات، ووضعت قواعد من التحالفات لإسقاط مرشحي المؤتمر الوطني لاستطاعت أن تكسب دوائر عديدة في العاصمة والولايات.. وإذا كان رجل أعمال ثري وصحافي مثل “الطاهر ساتي” نجح في زعزعة أركان القيادي في المؤتمر الوطني “بلال عثمان” الذي يعدّ من أهل الفعل الصامتين العاملين في دهاليز الصمت، لا يتحدث في المنابر ويغطي وجهه بدثار من النظارات السوداء.. رغم ذلك تعرض في دنقلا لمأزق كبير جداً، حينما اكتشف أن نصف سكان دائرته وقفوا ضده.. وقد كان “إبراهيم الشيخ” شجاعاً وعملياً بخوضه الانتخابات الماضية بدائرة النهود، ولم يستطع “سالم الصافي حجير” الفوز عليه إلا بعدد محدود جداً من الأصوات، ولو عاد “إبراهيم الشيخ” لذات الدائرة لكان اليوم من الفائزين.. وللمعارضة قيادات بعدد الحصى، يمكنها تحقيق الفوز. مثلاً كيف لا يفوز “إبراهيم السنوسي” بدائرة الحمادي إذا ترشح هناك..؟ و”آدم الطاهر حمدون” بدائرة الفاشر.. ومنافسة د. أحمد بابكر نهار؟ ومن يستطيع الوقوف في وجه الفريق “صديق أحمد إسماعيل” إذا قرر خوض الانتخابات في دائرة عد الفرسان بجنوب دارفور؟ المعارضة أهدرت فرصة تاريخية، وكان يمكنها اختبار صدقيه الحكومة وخوض التجربة.. ودخول البرلمان واكتساب شرعية جماهيرية.. لكن المعارضة تنتظر فقط أن تعدل الحكومة القوانين.. وتفرش طريق السلطة بالورود والرياحين، وتمني نفسها بإزاحة وإسقاط النظام دون فعل حقيقي.. وقدرة على إقناع الجماهير.. وقد أعلنت المعارضة عن حملة (ارحل)، و(أنا مقاطع) لكن النتيجة إقبال الناس على الانتخابات بنسب متفاوتة بين القرى والحضر.. وفجيعة المعارضة الكبيرة تكمن في أن ما يعرف بالمناطق المأزومة في دارفور وكردفان أقبلت على الانتخابات أكثر من المدن مثل الخرطوم ومدني.
{ رئيس الوزراء.. الفريضة الغائبة
منذ منتصف التسعينيات أطلق “أمين بناني نيو”، وكان حينئذ قيادياً في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، أطلق دعوة لتعديل الدستور وتعيين رئيس وزراء يكون مسؤولاً أمام البرلمان ورئيس الدولة.. ولكن الدعوة تجاهلها قادة الحكومة والحزب حينذاك، وعدّها الترابي بدعة من بدع الزمان، باعتبار أن النظام الرئاسي لا يتسع لشريك آخر.. ولكن بعد (25) عاماً من الحكم، فإن الرئيس الآن مقبل على دورة جديدة، يواجه فيها استحقاقات كبيرة وتحديات جمة.. الرئيس اليوم مثقل بالأعباء.. ويشفق المرء على رجل تجاوز السبعين وكل أثقال الدولة وأحمالها على ظهره.. هو المشرف الأول على الملف الأمني والدفاعي، قريب من المؤسسة العسكرية بكل أنشطتها من تخريج الضباط، ومشاريع التدريب القتالية، ومتابعة سير العمليات في دولة تخوض حروباً لا تتوقف.. والرئيس هو رأس الدبلوماسية الكبير.. التزامات نحو المؤسسات الدولية والإقليمية وأسفار من دولة لأخرى، واستقبال السفراء ووداعهم.. وفوق كل ذلك متابعة الشأن التنفيذي.. شح الجازولين، انقطاع التيار الكهربائي وندرة الغاز، ضعف الإنتاج الزراعي، ظهور الأمراض والوبائيات، متابعة المالية، تقسيم العائدات مع الولايات بعدالة، الإسكان الشعبي والتأمين الصحي.. وتضخمت مؤسسة الرئاسة بأيلولة مؤسسات صغيرة كان يمكن أن تصبح جزءاً من الوزارات، لكن ألحقت بمؤسسة الرئاسة من الطيران المدني إلى صندوق دعم الشرق.. وصندوق جنوب كردفان وصناديق أخرى.. فكيف للرئيس أن يؤدي كل هذه الأعباء والأثقال بكفاءة ولا ينال منه الرهق والتعب؟ ثم لماذا لا ينتهج الرئيس ديمقراطية الخدمات وحرية التعبير، فيما دون ثوابت الدولة العليا .. بأن يصبح لمؤسسات الدولة التشريعية حق الرقابة الحقيقية، ويطيح البرلمان بالرؤوس العاجزة عن العطاء من الوزراء، ويستجوب البرلمان وزير المالية.. والدفاع والصحة.. وإذا ما صوت أغلبية الأعضاء على إعفاء الوزير ترفع التوصية من قبل رئيس الوزراء للرئيس لإعفاء الوزير المعني.. ويخضع رئيس الوزراء الذي يعينه الرئيس لرقابة البرلمان وسلطته في التوصية بتغيير الحكومة.. حتى نجعل للجهاز الرقابي سلطة حقيقية وهيبة، ويحترم الشعب السوداني التجربة؟؟ ولكن الوضع الحالي سلب من هذه المؤسسات سلطاتها وأصبحت ضعيفة ولا يأبه لها أحد. والبرلمان إذا رفض الوزير المثول أمامه ذهب إليه البرلمان حافياً، وقد حدث ذلك في الدورة قبل الماضية حينما اضطر رئيس البرلمان “أحمد إبراهيم الطاهر” وأعضاء الهيئة القيادية للذهاب إلى إحدى الوزارات الكبيرة، ولقاء الوزير المهم بعد رفضه المثول أمام البرلمان.
إن وجود رئيس مجلس وزراء في حكومة يغلب عليها التكنوقراط وأهل الخبرة والمحترفين، أصلح لواقع نظامنا. فهو أفضل من حكومة ولاءات التنظيميين، الذين فشلوا في الإضافة للجهاز التنفيذي.. وقد كان “جعفر نميري” يبحث عن الكفاءات أينما كانت وحيثما وجدت ويأتي بها لمجلس الوزراء.. عين “مرتضى أحمد إبراهيم”، “بكري أحمد عديل”، “الرشيد الطاهر بكر”، “صمويل أرو بول”، “أبيل ألير”، “عثمان السيد”، المهندس “بشير جماع” و”محمد عثمان أبو ساق”.. ولم يكلف نفسه يوماً السؤال عن قبيلة الوزير.. ولا حزبه قبل (مايو).. لا يبحث “جعفر نميري” عن أرشيف الوزراء القادمين، ولا يشغل نفسه بصغائر الأمور وتوافهها.. والآن يستطيع الرئيس بالتفويض الشعبي الذي ناله أن يعين الكفاءات السودانية التي تنفذ له برنامج المرحلة القادمة.. وليس مهماً أن يعين الرئيس الوزراء فقط، لكن المهم أن يعكف بنفسه على وضع سياسات جديدة ومنهج آخر.. وخطاب سياسي، بلا تجريح لمعارض ولا إساءة لدولة ولا تحقير وازدراء لإنسان كرمه الله. وأن يأمر وزراء حكومته بحسن الخطاب وعفة اللسان. وإذا أمتن وزير على الشعب منحه إجازة نهائية، وأخرجه من المقعد الوزاري. وإذا تورط والٍ في فتنة قبلية وثبت تحيزه لعشيرته أو خشم بيته، يتم عزله وتقديمه للمحاكمة.. ولكن أن تصبح جميع أجهزة الدولة وقادة الحكومة حامين لأخطاء موظفين فاسدين، فتلك هي الغفلة بعينها والتمادي في الأخطاء والمكابرة.. وما ضعفت الدولة ووهنت الحكومة إلا بغياب الرقابة ومبدأ المحاسبة، وشعور البعض بأنهم فوق المؤسسات وأنهم معصومون عن الأخطاء، وإن أخطأوا فإن أخطاءهم مغفورة وسيئاتهم حسنات.
{ الدم والدموع
منذ إعلان الحركة الشعبية خوضها معركتها لإيقاف العملية الانتخابية في جنوب كردفان.. وتصاعد المواجهات الأخيرة، دفع إنسان جنوب كردفان وحده ثمن الانتخابات، حيث بلغ عدد الشهداء حتى ظهر الخميس (136) شهيداً منهم (28) شهيداً في تلودي، و(18) في الرحمانية، و(69) في هبيلا، وأربعة شهداء في كادوقلي أمس الأول، وأربعة في الدلنج.. وبلغ عدد الجرحى والمصابين (140) جريحاً، يواجهون قدرهم اليوم في المستشفيات، وعلى نفقتهم الخاصة ونفقة أسرهم، التي لا تملك من زاد الدنيا سوى العزيمة والتوكل على الله.. وأهل جنوب كردفان دفعوا ثمن إصرارهم على قيام الانتخابات، وتحدي إرادة التمرد في إيقاف الانتخابات هذه الفظائع والآلام والدموع والدماء.. وإذا كانت الانتخابات في بقية السودان مواسم للفرح النبيل، والغناء والتواصل، فإنها في جنوب كردفان دماء ودموع، ونحيب وآلام وأوجاع، ونصيب المواطنين منها اختيار رئيس الجمهورية الذي قال في ثاني لقاءاته الخارجية إن السلام سيتحقق هذا العام عبر البندقية أو التفاوض. والتزام الرئيس أمام جماهير كادوقلي عدّه المواطنون برنامجاً من أجله امتطت الحسناوات اللواري.. والجرارات الزراعية والمواتر.. وسار البعض على الأقدام من أجل المشاركة في الانتخابات.. وحشد “محمد أحمد صباحي”، نائب “عبد الواحد يوسف” في الاتصال التنظيمي، قيادات جنوب كردفان من أجل الدعم والمساندة والمؤازرة، وطافت الوفود المحليات في ظروف بالغة الدقة.. وكان صندوق دعم السلام بجنوب كردفان قد حصل على دعم من وزير الدولة بالقصر “فضل عبد الله” لتسيير أمانته العامة وتقديم التعازي لضحايا هبيلا وكالوقي، لكن الصندوق فشل في مساندة الحملة الانتخابية.. وإزاء هذا الواقع فإن مطالب أهل جنوب كردفان، وثمن وقفتهم المشرفة.. والدماء التي سالت.. والدموع التي بللت المآقي، أن تعيد الحكومة النظر في كل سياساتها السابقة، وتقبل على تفاوض حقيقي ورغبة أكيدة في حل مشكلة مواطنين من دولتها نالهم من الرهق والموت والتعب ما نالهم.. لم يشق شعب في كل الكرة الأرضية بالحروب والمجاعات والمعاناة مثلما شقي شعب جبال النوبة، بكل مكوناته، وقد تجاهلت الدولة في الأعوام الأخيرة حرب الجبال.. وحتى أخبار تعدي التمرد على الأطفال والنساء وقتل المدنيين لا تجد حظها في وسائل الإعلام. وقد أحسن “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية، وهو يشعر بآلام أهله في كادوقلي.. ويمضي معهم نهار (الجمعة) متحدثاً إلى الناس وماسحاً دموع المحرومين.. إن السنوات الأربع التي انصرمت أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن حرب جبال النوبة لن تنتهي بالبندقية وحدها.. ولا سبيل إلا تفاوض جاد يضع حلاً لكل مشاكل حاملي السلاح.. ويعصم بلادنا من مزيد من التمزق والانشطار.. وقبل ذلك فإن إرادة أبناء كردفان ووحدتهم ضرورة قصوى.. وأن يكف طلاب الوظائف والباحثون عن كراسي السلطة التزلف للسلطان، وكتمان شهادة الحق من أجل وظيفة يعتاشون منها.