حلال؟؟ ولا حرام؟!!
تجانى حاج موسى
(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع).. ذلك المطلع كان للأنشودة التي رددها أهل المدينة المنورة كبيرهم وصغيرهم وهم يستقبلون خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، ومنهم من تسلق النخيل ومنهم من صعد على جدران المنازل وسقوفها.. والحادثة يعرفها كل مسلم، والأغنية حفظها وسيحفظها كل مسلم وقف على سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.. أربعة عشر قرناً من الزمان والحادثة تواترت حتى وصلتنا ولم ينكرها أحد.. فأهل المدينة أقاموا ذلك المهرجان الاستقبالي للحبيب صلى الله عليه وسلم، ودعوته الخاتمية.. يعني حينما أراد أهل المدينة الأنصار أن يعبروا عن فرحهم بقدومه صلى الله عليه وسلم.. عبروا بالغناء المصاحب بالدفوف، وتلك كانت آلات الموسيقى المتاحة في ذلك الزمان البعيد.. وفي ظني أنه لو كانت الآلات الموسيقية التي يعزفها العازفون في الأوركسترا الموسيقية المعاصرة موجودة حينذاك لعزفوها مصاحبة لطلع البدر علينا.. كل هذه المقدمة التي يعلمها القارئ الكريم أوردتها لأدلف إلى حقيقة وهي أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان فرحاً بأهل المدينة وفرحاً بالطريقة التي عبروا بها عن فرحهم وهي الغناء، وهذا هو دور الإبداع في الفنون كافة، عبارة عن وسيلة للتعبير.. وبالطبع إطلاق الحكم لحرمة الغناء يعد أمراً ظالماً للغناء الطيب الجميل الذي ينادي بقيم الخير المطلقة.. ماذا علينا إذا تغنينا بقيم التحريض على التصدق (لُقمة المؤمن بي ربو، حلوة لمن تنقسم)، أو قول (صباح الخير وأبدأ يومك بالتحية)، أو (جرب أغفر للبخونك تلقى أعدائك قلال)، أو (شوف دنيتنا الجميلة بي وديانها وصحاريها ونخيلها).. (الشمس كل يوم بتشرق أصلوا ما تأخر شروقها، وفي العشية تسيبنا تغرب روعة سبحان البسوقها)، وهناك مئات الأغنيات السودانية الجميلة جادت بها قرائح الشعراء وأداها الحُداة منذ أمد بعيد.. وهنالك بالطبع الغناء الغث الذي لا يحتوي على المضامين الطيبة سالفة الذكر، يظهر هكذا فجأة وسرعان ما يذهب أدراج الرياح لأنه ولد وهو يحمل بذور فنائه، وهو مرفوض جملة وتفصيلاً وإن راج في أزمنة محدودة.
إذن نحن في أمس الحاجة في زمننا هذا إلى المبدع الملتزم الذي يعي دوره في مجتمعه وهو الذي يقدح ذهنه ويسخر موهبته ويوظفها ليخرج لمجتمعه أعمالاً ذات قيمة جمالية عالية تشذب الإنسان وترتقي به نحو آفاق الجمال الإنساني المطلق، وهذا ما يجعلنا نثمن قيمة الناتج الإبداعي الصادق الأصيل. وكم من مبدع رحل عن الدنيا وخلد إبداعه على مر العصور والأزمنة، ودونكم أسماء العديد من المبدعين الذين تجاوزوا حدود أوطانهم الجغرافية وسارت بسيرتهم الركبان. ومثلما تخاطب الفنون الروح أحياناً تنفلت وتخاطب المادة المحسوسة والغرائز في جميع الفنون، يحدث ذلك، وهنا يأتي دور الناقد الحصيف الذي يُشرِّح جسم ومضمون العمل الإبداعي حينما يسبر غوره ويبيِّن لنا كنه قيمته الجمالية.. وهنالك مصدَّات واقية للعمل الإبداعي، مثلما هنالك أسباب فناء للعمل الإبداعي فيكتب الخلود لكل الأعمال الإبداعية التي تعانق الروح والوجدان، وكم من مرة انطلقت ألسنتنا بعبارة (يا الله يا سلام!! هذا عمل رائع حد الروعة)، وهذا الاستحسان يطلقه المزاج الفطري الكامن في النفس البشرية.. والترويح عن النفس ساعة بساعة يتوافق مع فطرة الإنسان لأن الحياة والعمر الإنساني القصير لو كانت كلها مكابدة ومجابدة في الحصول على لقمة العيش لما تزاوجنا وعمرنا الأرض وخلفنا الخالق عز وجل.. ومن رحمة الخالق جلت قدرته على عباده أن أكرمنا بالدين الخاتم وبالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي الذي أبان لنا في خطبة وداعه أنه ترك لنا ما إن تمسكنا به لن نضل أبداً.. وأبان لنا أن غرائزنا وأموالنا وزوجاتنا وأبناءنا فتنة، وهنالك وسواس خناس يزين لنا القبيح فنراه جميلاً وتستحوذ علينا الأثرة والجشع والأنانية والافتتان والتمسك بعرض الدنيا الزائل لا محالة ولا نتعظ بحقيقة الموت الأزلية لكل حي ونحسب أن في العمر فسحة لتصحيح أخطائنا وتغيب عن أذهاننا.. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ونسوق لأنفسنا الأعذار لتبرير ما اقترفنا من أخطاء بينة وواضحة.. وهنالك من البشر من ينصبون أنفسهم قضاة فيطلقون أحكاماً مطلقة على بشر دون أسانيد وأدلة تجرمهم.
قال لي (محرشاً) لماذا لا ترد على من سبك في الصحيفة؟! قلت له.. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.. غضب صديقي وقال: إنه سبك وشهر بك وأساء سمعتك!! قلت له: المسامح كريم والعارف عزو مستريح، وتمضي الأيام ليأتي نفس الشخص الذي سبني ليعتذر لي!! يا سبحان الله وأنا قد نسيت سبه لي لكنني أذكر أنني دعوت له أن يهديه ويهديني الله.. وفي رأي المتواضع أن ما نراه الآن من عنف وقتل وخراب ودمار وفتنة وشر غذيناه بالقيم السالبة من حقد وحسد وغل وظلم وكره.. الخ من القيم السالبة.. وأهملنا رعاية قيم الخير والجمال المطلقة فأطلق مارد الشر عنانه وزين لنا الباطل حقاً والقبح جمالاً.. ربما تحسبني رومانسياً أحلق بأجنحة الخيال نحو مرافئ الوهم لكن أقولها وأنا متصالح مع نفسي ومع الآخر مهما كان ذلك الآخر قبيحاً لا لشيء إلا لأني أعلم علم اليقين بأن الخالق عز وجل كرمني كإنسان وأبان لي القبح والجمال وطريق الخير وطريق الشر وأنني ملاقيه يوم لا ينفع مال ولا بنون.