النشوف اخرتا
سعد الدين ابراهيم
“بستم” (الشماسي)..!!
كان “بستم” سعيداً وسط رفاقه الشماسة.. فهم الذين غيروا اسمه من “محمدو” إلى “بستم” لأنه قصير القامة لكنه (شفت)، لم يكن يحلم بالكثير.. بضعة دراهم.. شمة سلسيون، تذكرة السينما.. ورقص مع الرفاق في تطفلهم على حفلات الأعراس.
صبيحة ذلك اليوم.. حمل حاجيات لامرأة بخيلة.. ساقته من طرف السوق وحتى بيتها البعيد.. مثلها كان يجب أن تركب تاكسياً أو أمجاد أو تؤجر (كارو).. لكن أن تحمل الأشياء لصبي يمشي كالحمار كل هذه المسافة هذا ما لم يستوعبه وغضب على الجهد المبذول.. لما وصلت المنزل دست يدها في حقيبتها وأخرجت له ورقة من فئة الجنيه مدتها له.. (هاك شيل خمسمية وجيب خمسمية)… فرمى لها الورقة.. وأخذ يبكي في حرقة.. جارة المرأة وهي محامية حديثة العهد بالعمل.. رأت المشهد.. سألت “بستم”: إنت شلت ليها من وين؟ فقال: من السوق. فقالت للمرأة: حرام عليك يا حاجة.. جابهتها المرأة: تحرم عيشتك.. هووي يا بت بخيت دايرة تعملي فيها محامي للشماسة.. خلاص المحاكم رفدوك منها؟.. قالت “هند” المحامية في سرها: المرة اللئيمة دي.. ما فوقا فايدة.. طيبت خاطر “بستم” وأصرت عليه أن يدخل المنزل وستعوضه.. كلفته بمهام تنظيف بسيطة افتعلتها حتى تجزل له في العطاء.. حكت لشقيقتها دكتورة “صفاء” الحكاية فتعاطفت معه وأخذت تتأمله.. وجدت فيه وسامة تخفيها الملابس الرثة وعدم الاستحمام.. فتذكرت أنه يماثل ابن شقيقتهم المغتربة “فادي” في الحجم.. وأن لديه ملابس كثيرة تركها وسافر.. قررت أن تهبه أجملها.. همست لأختها: سنقوم بحملة نظافة وأناقة لهذا الولد.. أمرته في حنو أن يدخل الحمام ليستحم.. زجرتها شقيقتها هامسة: إنتي مجنونة كيف يستحم في حمامنا قد ينقل لنا داء عضال.. قالت لها: لا عليك بعد أن يستحم سأغسل الحمام بالديتول وأعقمه بالسبل كافة.. استحم “بستم” وكان صوته يأتي للشقيقتين حلواً وهو يغني أغنية هندية لا يعرفان إن كانت سليمة أم حفظها هكذا.
أحضرت له أجمل ثياب “فادي”.. القميص الحريري الأبيض.. البنطلون الجينز الأزرق الحذاء الإيطالي الأنيق والبدلة وربطة العنق.. ألبسته كل هذه الثياب بعد أن عطرته ونفحته مبلغاً لم يصدق أنه يخصه وحده.
انطلق “بستم”.. خيل إليه أن الجميع يتأمل ملابسه ويشم عطره ويتلمس نظافته.. وكان يقول لنفسه متباهياً بها: (أبو الزفت.. بستم بقى زي أولاد المقندلين).. يتكاسل في مشيته حتى يملأ عيون الناس بشكله الجديد.. ثم يمضي مسرعاً حتى يصل أقرانه ويروه في هذا السمت الأنيق.
أمام محل المرطبات كان صوت الاستريو يشق العنان ليعلن عن صوت “ترباس” يغني (ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي).. رقص.. ورقص.. حتى أخذ المارة يتحلقون حوله.. لم يتبينوا ملامحه الشماسية.. وبدا لهم كأنه من أبناء الأثرياء.
انتهت الأغنية فصفق له المتجمهرون.. فأخذ يعدو.. ويتقافز.. حتى وصل إلى رهطه ورفاقه.. صمتوا لبرهة ينظرون في ذهول حتى فاجأهم بصرخة: أنا “بستم”.. أخذوا يحتضنونه ويتشممونه لفترة ثم صمتوا إذ قال قائدهم: أملص الهدوم دي نبيعها وألبس زينا.. قال “بستم”: لا يمكن.. سأنتظرها حتى تتسخ.. إذن فسنضربك ونمزقها ونبعدك عن القطيع.. صمت “بستم” برهة.. وبدأ يخلع ملابسه.. مع كل قطعة تنزل دمعة واحدة.. تذكر أنه لم يحضر أسماله البالية.. وحين خلع القميص.. صاح: لكن ألبس شنو؟ قال الزعيم: بطريقتك تخارج نفسك.. صمت قليلاً راودته فكرة مجنونة تجرد من كل ملابسه.. وأخذ يرقص عارياً وكأنه (زوربا السوداني) الذي تفوق على سيد الاسم.. ففعل أكثر مما فعل.