تحقيقات

شيخ المجذمين يحكي مشوار (55) عاماً من التنقل والمعاناة في أطراف الخرطوم!!

زيارة خاصة لحي يسكنه مصابو مرض الجذام!!
(900) أسرة مصابة يتوزعون في بيوت صغيرة بـ(مدينة الأمل) الطرفية
تحقيق ــ أمل أبو القاسم
لم تك زيارتنا للمتأثرين بمرض “الجذام” المعدي والذين عزلتهم السلطات في أطراف العاصمة الخرطوم بالأمر الهين، فقد سبقتنا هواجسنا في الوقت الذي تعطلت فيه أقدامنا وثقلت خطواتنا، فمعرفة حقيقة الأوضاع التي يعيشها هؤلاء وتداعيات إقصائهم في منطقة نائية احتجنا فيها لدليل كيما نعرف مكان إقامتهم دفعتنا بعزيمة قوية لاختراق عالمهم مهما كانت الصعوبات التي ستواجهنا، وقد وضعنا خطة محكمة لتفادي كل ما يمكن أن يعترض نجاح مهمتنا.
غير أن الحقيقة والوضع (المائل) الذي شاهدناه كان فوق تصورنا، شريحة متضررة من المرض الذي ابتلاها به الله فزادها الإهمال ضرراً على ضرر، أناس أبعدوا ليكونوا بمعزل عن سائر المواطنين، وفي غفلة من الزمن وانشغال الجميع عنهم وانصرافهم في أمور ليست بأكثر أهمية منهم ساءت أوضاعهم، وهم الذين لا حول لهم ولا قوة على إيصال صوتهم الواهن إلى قلب الخرطوم. والوجوم والوجه الكالح هو الصفة المميزة لهم حال وصلنا إليهم. وملخص حالهم يختزل في قصة أسرة مكونة من أربعة أطفال حرموا من التعليم والعلاج واللقمة المشبعة وعائلهم الشقيق الأكبر طفل لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره بعد أن فتك المرض بوالديهم.
معينات قليلة وهدايا قدمتها لهم (المجهر) كانت كافية لإعادة نبض الحياة إلى الوجوه، فهلا أعدتم لهم النبض في سائر أعضاء جسمهم العليل؟ التفاصيل عبر هذه الزيارة التي حرضت الأمل وسكنت الألم، استمعنا فيها لتفاصيل مشوار (54) عاماً من التنقل والمعاناة في أطراف الخرطوم خلال الحقب المختلفة.
نقطة الانطلاق
انطلقنا ثلاثتنا مدير التحرير وشخصي والمصور “شالكا” بصحبة سائق الترحيل “أنس”، الذي استطاع بمهارة شق أطراف العاصمة للوصول إلى حي المجذمين الذي يصعب الوصول إليه إلا لمن هدى الله سبيله. ساعة من الزمن كانت كفيلة بوضعنا في قلب الهدف، هواجس كثيرة انتابتنا في تلك اللحظة ولكن مع بدء العمل والشروع في التحري تبددت كل تلك المخاوف وانكسر حاجز الخوف من العدوى وعواقب ردة فعل هؤلاء ومحدثنا شيخ المجذمين ورئيس منظمة (أيدينا) السودانية لا ينفك بين الفينة والأخرى يقلل من مخاوفنا بقوله “قربوا ما تخافوا ما بتجيكم عوجة” وهو يطلعنا على مبررات حديثه هذا بالبيان وأحاديث أخرى دارت في حضرة عدد مقدر من “مصابي الجذام” الذين استبشروا خيراً بحضورنا كأنهم وجدوا ضالتهم التي من شأنها أن توصل شكواهم التي فصلت المسافات البعيدة وأشياء أخرى بينها وبين المسؤولين الذين ومنذ أن وضعوهم هناك لم يلتفتوا إليهم مجدداً. فإلى تفاصيل الزيارة في التالي نصه.

رضا وثقة بالله
وحيث إننا كنا نستشعر ما يمكن أن يعانيه هؤلاء “المجذمين” من تردٍ اقتصادي سيما أننا كثيراً ما نراهم ضمن متسولي الولاية وهو ما قال به شيخهم في سياق حديثه “لو في جهة تبنتنا ورعتنا ما كان أولادنا مشوا الخرطوم يشحدوا”، فقد صدقّت لهم إدارة الصحيفة بمواد تموينية بمثابة قطع لن تكفي حاجتهم البتة لكنها ستخفف عنهم عبء عدد من الأيام وهو ما حدث، فقد تبدت لنا فرحتهم بهذه المعينات ولسانهم لا يفتأ يدعو لنا وكل منهم يأخذ نصيبه بأدب جم فربما مصابهم وطّن فيهم الرضا والثقة بالله.
فعندما وصلنا دلفنا مقتحمين لمنزل أحد المصابين الذي كان وبأيدٍ مبتورة يغسل ملابسه، عرفناه بأنفسنا وأننا صحفيين أتيناهم كيما نساعدهم في إيصال شكواهم إن كانت لهم شكوى، وطلبنا منه استدعاء جيرانه فرحب بنا وأبلغنا بعد أن تلفت يميناً وشمالاً بأنهم “فروا” الخرطوم ولم تتبقى إلا فئة قليلة معظمهم من النساء اللاتي تداعين لاحقاً، وقبل أن ينبس ببنت شفة في قضاياهم سألنا إن كنا قد التقينا شيخهم؟ فرددناه بالنفي فما كان منه إلا وأن طلب من أحد الصبية إيصالنا لمنزله وهو ليس ببعيد عنه.
قلنا إنه ليس ببعيد لأن المنازل التي لا تتعدى مساحتها المائة ونيف تتقارب حتى يخال إليك أنها منزل واحد سيما أنها بلا سور يحدها، وقد كان نصيب كل منهم غرفة واحدة في مساحة محدودة هي التي مسحتها الجهة التي أتت بهم إلى هذه المنطقة التي حدثنا عنها شيخهم وهو يعود بنا القهقرى منذ أن وطأت أقدامهم العاصمة “الخرطوم” ومشوار تنقل من مكان إلى آخر.
فذلكة تاريخية
وحيث إننا وصلناهم في نهار قائظ بدد سخانته الهواء المنساب بفعل الفضاء الواسع الذي يقع خلف المنطقة، فقد وجدنا شيخ المجذمين “أبكر آدم محمد” وهو يستلقي أرضاً في غفوة نهارية مستظلاً بغرفته الطرفية فقطعناها عليه. وبعد أن تعرفنا إليه وعرفناه بأنفسنا استنهض جسده وذاكرته وهو يطرق عليها لتستدر تاريخ وجودهم وأول مكان خصص لهم كمتأثرين بمرض الجذام، فقال: أول مكان خصص لنا كان في عهد “نميري” وتحديداً في العام 1970م واختيرت لنا منطقة الصهريج القديم في حي “مايو”، لكن وبزيارته لنا – أي نميري – رأى أن المنازل ضيقة واقترح ترحيلنا إلى جنوب الحزام الأخضر في ذات المنطقة وذلك على ما أذكر في الخامس عشر من رمضان، وتم ترحيلنا بعربات على نفقة الحكومة، وجهزوا لنا بيوتاً مكونة من الخيش والكراتين، وكنا – الحديث ما زال لأبكر – أول من يسكن تلك المنطقة ــ أي نحن من أسس حي مايو ولأن المنطقة مبتدئة ومقطوعة فقد كانوا يحضرون لنا الماء بالفنطاس والصفيحة بقرش واحد.
وبخبرة العالم بشؤون وتاريخ مواطنيه ورفقائه في المصاب أستطرد “أبكر” في حكيه: بعد إقامتنا في صهريج سوق ستة نميري أنشأ لنا مجمعاً وكنا عدد كبير جداً من الأسر، وقد انقسم بعضنا في فريق (فلاتة) ثم بدأت المنطقة تنتعش وأقيمت مدارس بعد وفود سكان جدد، وبعد أن بدأ التخطيط تفرق جمعنا.
وعن جذورهم والمصابين بالمرض قال محدثنا: بعضهم من دار غرب وآخرون من الصعيد و”الدمازين” على أن أغلبهم من الغرب والذين وفدوا من دول الجوار.
تاريخ ظهور المرض
خابت توقعات منظمة الصحة العالمية في القضاء نهائياً على داء «الجذام» عام 2010، فمازالت تسجل سنوياً (300) ألف حالة في العالم، (200) ألف حالة تسجل سنوياً في “الهند” لوحدها، و(3938) إصابة سجلت السنة الماضية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و(1901) حالة تسجل سنوياً بالسودان، و(800) حالة بمصر، رغم التراجع المهم الذي سجل بخصوص هذا الداء، هو معدل (50) حالة سنوياً.
والجذام كلمة كفيلة وحدها بإثارة الرعب في القلوب لما هو شائع عن هذا المرض في العصور القديمة، إذ تعود بداية ظهوره إلى (600) سنة قبل الميلاد وهو الذي قال عنه رسول الله “صلى الله عليه وسلم” (فر من المجذوم كما تفر من الأسد)، بيد أنه وبفضل الوقاية منه وطرق الحد من عدوته باكراً فقد تقلص المرض في الأجيال الجديدة، وهذا ما أكده “شيخ المجذمين” في حديثه وهو يشير إلى الأطفال والصبيان الذين تحلقوا حولنا وآخرون انصرفوا يلعبون.
محاربة الوصمة والانتقال للزواج من غير المصابين
“الشيخ” يقول وهو يرد على سؤالنا حول مدى تقبل المجتمع المعافى الذي يندمجون فيه سواء بسبب الدراسة أو أداء الاجتماعيات أو الصلاة وغيرها، بأنهم ونسبة للتطعيم منه باكراً حيث ثبت أن استخدام العلاج منذ الـ(3) أيام الأولى، يجعل المريض غير معدٍ، وتتوقف العدوى نهائياً بعد العلاج لمدة (12) شهراً، ويقضي على عدد كبير من البكتيريا داخل الجسم (بحسب الدراسات). كما أنهم يقومون عبر منابر مفتوحة وبصورة دائمة بتوعية المجتمع بحقيقة المرض وإنه غير معدٍ، ووضعنا ملصقات تنويرية من (مول عفراء) وحتى القصر الجمهوري. وهناك موظفون وطلاب جامعات من أبنائنا يتعايشون بصورة طبيعية في المجتمع، ليس ذلك فحسب فإننا نتزاوج مع الأصحاء بصورة طبيعية.
وعن ما إذا كان بينهم الآن بعض المستنيرين أشار إلى فتاة كانت تجلس بين النساء اللاتي أحطنا بنا، فاستدعينا “سارة” وسألناها إن كانت متأثرة بالمرض فقالت: إنها ووالدتها سليمتان فقط جدتها لأمها وهما ترعيانها.
مشاكل جمة
ثم عرجنا مع المتحدث باسم مرضى الجذام الذين يقيمون بحي (الأمل 3) “أبكر آدم” للحديث عن المشاكل التي تواجههم سيما أنهم ومن خلال حكيهم أخبرونا أنه ومنذ أن أتت بهم السلطات إلى هذا المكان لم تسأل عنهم، وناشد هؤلاء وزير التخطيط العمراني ومعتمد جبل أولياء أن يلتفتوا لحل قضاياهم ومشاكلهم التي تعيق كثيراً من مجريات حياتهم.
ولعل أولى هذه الحاجات هو إنشاء مركز صحي خصصت له قطعة مع الشريط الحدودي لسكنهم، وتمنى متأثرو الجذام الذين التقتهم (المجهر) في دارهم أن يكتمل صرحه واعتبروا حديثهم بمثابة شكوى ومطالبة للجهات المعنية للإسراع في بناء هذه القطعة ومن ثم توفير الكوادر حتى يرى المركز النور لأنهم أشد ما يعانون منه ليلاً حال مرض أحدهم والمنطقة معروف عنها انقطاعها في الأطراف، وطلب آخر ملّح لا يقل أهمية من السابق له يتمثل في توفير عربة إسعاف أو غيره ترابط بصورة مستديمة في منطقتهم لحالات الطوارئ “مرض ـ موت”، وقالوا إنه سبق أن توفى مواطن ليلاً عانوا ما عانوا حتى وجدوا عربة تقلهم للمقابر.
ثمة مشكلة أخرى تتمثل في توفير الماء والكهرباء، حيث يعانون من عدم توفيرها أشد المعاناة، وقالت “سارة” الموية لا تأتي إلا من الفنطاس وتباع لنا بسعر جنيه لـ(الجوز)، أما الكهرباء فقد تم توصيل الأعمدة والتوصيل بحسب الدفع والكلفة كتيرة علينا “2500” جنيه البدفع ينزلوها ليهو والما بدفع “يقعد ساي” ولم يقو على الدفع سواء شخص واحد.
95% من المرضى غلابة!!
إلى جانب كل ذلك هناك مشكلة بيئة، حيث ترقد (الأمل 3) متاخمة لـ(مشروع سندس الزراعي) الذي يعتبره الأهالي غير مجدٍ لهم، وقال المواطن “محمد عبد الله عبد الباقي” إن المشروع الذي يزرع علف الحمير يتسبب لهم في كارثة بيئية بإفرازه للذباب والبعوض ومن ثم ملاريات واسهالات، لافتاً إلى أن (95%) من مصابي الجذام غلابة ويحتاجون الدعم والسند.
الطفل صدام ومأساة فقد الأم والأب
الصبي “صدام” الذي حل حضوراً بين أولئك الذين جلسوا إلينا له مأساة من نوع مختلف، فهو يتحمل عبء ومسؤولية شقيقاته وهو بعد في الثالثة عشر من عمره بعد، سألناه عن والديه قال إنهما توفيا بآثار الجذام، وعن ما إذا كان يدرس قال إنه ترك الدراسة من “الروضة”، وطالما أن “صدام” بسنه البكر هذه يتحمل مسؤولية أسرة ونصيبه من التعليم محدود، فإنه بالكاد يجمع قوت يومهم من صناعة الطوب وشغل اليوميات، والطبيعي أن تحرم شقيقتاه الصغيرتان وتلك التي تكبره من التعليم.
ونحن نجتمع مع أهل تلك المنطقة الجميع لفتنا إلى مساعدة “صدام” وأسرته ما يشي عن مدى ترابطهم، وللحق فإن أسرة الطفل تحتاج الدعم والسند، بل التبني من فاعلي الخير أو الجهات المعنية.
واقع يتعارض مع العلاج
تقول الدراسات إن الوقاية من هذا الداء العضال تكون بالاكتشاف المبكر للحالات وعلاجها لأنها تمثل بؤرة انتشار المرض ثم التطعيم، والأهم من ذلك ضرورة تحسين الحالة المعيشية في المنزل من إضاءة وتهوية بالإضافة للتغذية، لكن ما يعيشه هؤلاء وما ذكرناه آنفاً يتعارض مع الواقع الذي يعيشه المصابون تماماً.
مدرسة باسم الحاجة هدية
كثير من الأمور تجري بالعون الذاتي ومن بينها (مدرسة الحاجة هدية) التي أطلقها أهل المنطقة على اسم والدة الرئيس “عمر البشير” تيمناً بها وعشماَ فيها، فهل استجابت لهم ودعمتهم حتى يكتمل بنيانها الذي ينتقص لأربعة فصول أخرى ومكاتب، وهي الآن قيد التشييد وفي انتظار الافتتاح.
مشاركات خارجية
ونحن نهم بالمغادرة ومتأثرو الجذام يلوحون لنا بالوداع وهم يتعشمون خيراً من زيارتنا تلك، أصر شيخهم “أبكر” أن يطلعنا على مقر منظمة “أيدينا السودانية” التي يرأسها، وقد أسست في العام 2007م وسجلت في وزارة الشؤون الاجتماعية، وسجلت رسمياً في مارس 2008 في وزارة الشؤون الإنسانية. وهي معدة بصورة جيدة وقال إنها تشهد بعدد من الاجتماعات بما فيها الاحتفال باليوم العالمي للقضاء على مرض الجذام، ويحرصون على الاحتفال به إذا كان خارجياً كما حدث في سنوات خلت.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية