"نيالا".. الدم والدموع
حديث السبت
يوسف عبد المنان
إلى أين يتجه صراع الأجنحة في الحزب (الاتحادي) الكبير؟؟
حزب (البعث) يعترف برغبته في الانقلاب عسكرياً على (الإنقاذ)
تعيش مدينة “نيالا” عاصمة جنوب دارفور حالة رعب وخوف ونهب وقتل منذ سنوات، وهي ثاني مدينة في السودان من حيث الكثافة السكانية بعد العاصمة “الخرطوم” بسبب الهجرات الداخلية لسكان الإقليم الغربي خلال السنوات العشر الأخيرة.. وفاضت دموع “نيالا” خلال يومي (الاثنين) و(الثلاثاء) الماضيين بسبب حادثة قتل أحد منسوبي القوات النظامية على يد آخر (من منسوبي القوات النظامية أيضاً) بسبب بيع قطعة سلاح بطريقة غير مشروعة.. وحال وقوع حادثة القتل تجمع ذوي القتيل من عشيرته لأخذ الثأر من السلطة والتظاهر والاحتجاج العنيف، ما جعل السلطة توجه آليات العنف لتفريق المتظاهرين وحماية أمانة الحكومة التي يتحصن بها الوالي الجنرال “آدم جار النبي”.. وحادثة مقتل شخص في مدينة “نيالا” الأسبوع الماضي تمثل إضافة جديدة لحالات القتل والتصفيات التي صبغت المدينة بلون الدم منذ فترة ليست بالقصيرة.. وقد غرقت المدينة في الدموع والدماء أو ظلت غارقة منذ سنوات جراء مثل هذه الأحداث، حيث اغتيل رجل الأعمال “إسماعيل واوي” أمام منزله.. واغتيل أحد منسوبي الاحتياطي المركزي “كروم” الشيء الذي أدى إلى نشوب صراع عنيف وفوضى هاجم فيها مسلحون يتبعون لقبيلة القتيل رئاسة جهاز الأمن، وتم اغتيال ضابط من الجهاز في تلك العملية.. وتمثل حالة “نيالا” ظاهرة أعجزت كل الولاة المتعاقبين بعد رحيل د.”عبد الحميد موسى كاشا” بقرار من المركز رغم انتخابه جماهيرياً.. وحتى ما قبل ذلك شهدت حقبة د.”الحاج آدم يوسف” حادثة نهب بنك السودان في المدينة في وضح النهار.. وتعتبر حادثة اقتياد متهم أمام المحكمة بواسطة مسلحين سابقة في التاريخ.. وفشلاً ذريعاً للسلطة في حماية حقوق المواطنين.
فلماذا حوادث القتل والتصفيات (المدبرة) من قبل عصابات منظمة في مدينة نيالا لوحدها دون بقية مدن دارفور؟؟ وهل العصابات التي ترتكب جرائم القتل داخل مدينة نيالا من الحركات المسلحة؟؟ أم من المليشيات القبلية والحركات التي وقعت على اتفاقيات مع الحكومة؟؟ وأصبحت تحمل أسلحتها في حلها وترحالها بين المدن والأرياف.. عطفاً على مليشيات قبلية بعضها يحمل السلاح لتحقيق مآربه الخاصة في النهب والسلب والثراء.. والمليشيات القبلية التي قاتلت إلى صف الدولة.. وهزمت التمرد في كثير من المعارك.. أخذت تنصب نفسها مكان الدولة وتدعي أنها من يحمي الدولة.. وتوطد أركانها، ولكن هذه المليشيات تعتريها أمراض خطيرة.. وتدفعها غريزة الانتماء القبلي والاثني.. وهي ذات ولاء مزدوج ما بين الدولة والقبيلة.. ويرتكب بعض منسوبي هذه المليشيات خطايا وآثاماً تدفع الدولة ثمنها باهظاً.. وقد فشلت كل محاولات فرض هيبة الدولة وبسط سلطانها.. ثم ظهر امتلاك الأهالي لعربات الدفع الرباعي.. ومنع ارتداء (الكدمول) الصحراوي في المدن والدراجات البخارية.. ولكن الأوضاع تنحدر كل يوم في مدينة نيالا.. إلى الأسوأ وتغرق المدينة في الدماء.. ولم تفلح كل جهود الجنرال “جار النبي” وخبرته العسكرية في إطفاء حريق دارفور.. ولجأ أخيراً لتعيين بعض الوزراء والمعتمدين من خارج دارفور بإيعاز من الحكومة المركزية (متحكماً) في كل شيء، يعين الوزراء والمعتمدين وقادة الخدمة المدنية ويبسط وصايته الكاملة على ما تبقى من الحكم اللامركزي.. ولكن الأوضاع الأمنية في دارفور تمضي باتجاهات مغايرة لمسارات السياسة الداخلية.. وتعتبر مدينة نيالا مثالاً يجسد أزمة إقليم دارفور الحقيقية.. ورغم التقدم الكبير والانتصارات التي حققتها قوات الدعم السريع وهي تهاجم حركات التمرد في معاقلها.. وتستولي عليها.. ولكن الأوضاع في المدن تنحدر إلى الأسوأ.. فإذا كانت الفوضى تضرب المدن والانفلات الأمني يطوق مدينة مثل نيالا.. والشارع الدارفوري (محتقن) فكيف يبسط الأمن في كارنوي، وفنقا، وجبل مرة.. وينفرط العقد في الضعين ونيالا، والفاشر.. وقد صدرت تصريحات من والي شمال دارفور “عثمان يوسف كبر” الأسبوع الماضي عن تسلل متمردين من مناطق القتال والمواجهة إلى داخل المدن.. وتعهد “كبر” بالقضاء عليهم، وكال الاتهامات لبعض منسوبي القوات النظامية بدعوى أنهم (منفلتين)، وقال إن العناصر المتمردة التي هربت من مواقع القتال سيتم القضاء عليها.. وتبع “كبر” جنرال نيالا.. اللواء “آدم جار النبي” وقال إن بعض المهزومين في المعارك التي تدور مع القوات النظامية في الميدان، هم من تسللوا إلى المدن لإحداث الفوضى!! السؤال الذي نوجهه لولاة دارفور من العصبة الحاكمة إذا كانت عناصر التمرد قادرة على تحريك الشارع ولديها أصابع داخل المدن.. فلماذا تقاتل في (فنقا) وسرف عمرة وخزان جديد.. وعين سيرو؟؟ ولما كان السادة الولاة يحيطون بهذه المعلومات ماذا ينتظرون؟؟ وبيدهم سلطة الاعتقال والحبس والمحاكمة؟؟
إن واقع مدينة نيالا المأزوم يكشف بوضوح عمق مأساة الإقليم.. وأن القضية ليست في الذين يحملون السلاح في الأقاصي البعيدة، إنما في حالة الانفلات الداخلي.. وعدم ثقة الناس في قدرة الدولة على إنفاذ القانون؟؟ إذا كان القاتل قد تم إلقاء القبض عليه كما هو في حادث نيالا الأخير وأودع حراسات الشرطة وينتظر أن يجد العقاب الرادع، فلماذا يهاجم ذووه السلطة ويحاصرون رئاسة الولاية.. ويهتفون بسقوط النظام.. ورحيل الوالي؟؟ إن الإحساس بالقانون أهم من تطبيق القانون نفسه، وإذا كان متهم يمثل أمام القاضي ويتم اختطافه من بين يدي العدالة وفي رابعة النهار الأغر، فكيف لا تتبدد الثقة في السلطة؟؟ وإذا كانت مئات المقتولين والمخطوفين والأسرى من داخل المدن لا تستطيع الدولة القبض على الجناة الذين ارتكبوا تلك الجرائم.. ولا محاكمات لمن يتم القبض عليهم، فكيف يطمئن الناس لفاعلية أجهزة تطبيق القانون.
الفوضى الآن في نيالا مثال فقط للاضطرابات وسوء التدبير وبؤس التفكير.. وتتجه الحكومة دوماً للمعالجات الأمنية الظرفية، وتدفع بالقيادات العسكرية والشرطية والأمنية إلى تلك المناطق اعتقاداً منها أن هؤلاء قادرون على بسط هيبة الدولة وسلطان الحكومة.. ولم تفكر يوماً في الأبعاد السياسية والاجتماعية لسياسات الحكومة نفسها.. وضرورة التحلي بالشجاعة ونقد الذات.. وتغيير جذري في سياسات الحكومة الحالية في دارفور .. ولن تستقر الأوضاع في مدينة مثل نيالا.. إلا بخروج كل المليشيات المسلحة منها.. سواء التي تقاتل إلى صف الحكومة أو تلك التي وقعت على اتفاقيات سلام معها.. وأن يؤول زمام الأمن الداخلي للقوات النظامية القومية، وليس القوات النظامية التي (توالي) بعض المجموعات القبلية، وهؤلاء من أشار إليهم الوالي “عثمان كبر” (بالمنفلتين. وفي دارفور من يجرؤ على توجيه النقد لحلفاء الحكومة يتم وصفه بالتمرد الخائن؟؟ ومن ينهب ويسلب ويقتل (يدعي كذباً) بأنه يقاتل إلى صف الحكومة ويحميها من التمرد ومخططات الأعداء.
{ حزب البعث: نعم للانقلاب العسكري على الإنقاذ؟!
من الاعترافات النادرة لسياسي سوداني تلك الاعترافات التي جاءت على لسان الأستاذ “محمد ضياء الدين” الناطق الإعلامي باسم أحزاب قوى الإجماع الوطني، وأحد قادة حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان الذي ينقسم لعدة تيارات وإلى مدرستين مرجعيتين، المدرسة العراقية التي يمثلها الباحث “محمد علي جادين”.. ومدرسة “الرفيق أبو رأس” وهناك المدرسة السورية التي يمثلها حزب البعث جناح دمشق.. وقال “محمد ضياء الدين” في برنامج الصالة الذي يقدمه من فضائية الصحافي “خالد ساتي”، إن حزب البعث لن يتوانى مطلقاً من التدبير والتخطيط لانقلاب عسكري في السودان إذا كان ذلك يسقط الإنقاذ ويرمي بها إلى سلة مهملات تضم حكومات سابقة عديدة.. وضاق “محمد ضياء الدين” ذرعاً بالاتهام الذي تم توجيهه لحزب البعث بالسعي لإجهاض الحوار الوطني ورفضه مبدئياً لمنطلقات البعثيين الإقصائية وتقمصهم شخصية الحزب الديمقراطي، بينما هم يمثلون تياراً إقصائياً دكتاتورياً، كما حدث في العراق وسوريا حيث يمثل النظامان السابق في العراق بقيادة “صدام حسين” والآيل للسقوط في دمشق بقيادة “الأسد” الصغير ثمرة لفكر حزب البعث.. وحصاد زرعه.. فقال “محمد ضياء الدين” بانفعال لا يليق بالقيادات السياسية (نسعى لإسقاط نظام الإنقاذ بكل الوسائل بما في ذلك الانقلاب العسكري إن وجدنا لذلك سبيلاً). ومثل هذا الاعتراف الجهير وفي وسائل الإعلام المفتوحة يضع الحزب أولاً أمام محكمة التاريخ.. ويذهب بقيادي مثل “محمد ضياء الدين” إلى القضاء، لأن في تقولات حزب البعث دعوة صريحة ومعلنة لإسقاط النظام بالقوة القاهرة والجابرة!! وعندما توجه في السابق الاتهامات لحزب البعث بالدموية والانقلابية.. يرفض الحزب تلك الاتهامات وينفصل عن تاريخه الدموي في سوريا والعراق، بزعم أن الحزب في السودان يؤسس منهجه على النشاط السلمي والجماهيري.. والرهان على صناديق الانتخابات، وحزب البعث على يقين بأن الجماهير لن تحمله لقبة البرلمان إلا في حدود دائرة أو دائرتين شأنه في ذلك الحزب الشيوعي والناصريون وبقية التيار اليساري الذي مات في القواعد، ولكنهم ينشطون فقط في وسائل الإعلام كأحزاب أقرب للظاهرة الصوتية!!
إن اعترافات “محمد ضياء الدين” في برنامج الصالة تنسجم مع تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي خطط ونفذ ودعم انقلاب 28 رمضان الدموي لإحالة البلاد لعراق آخر وسوريا ثانية ويمن”علي سالم البيض”!! وخلال الحقبة التعددية 85– 1989م، ظل حزب البعث متربعاً بالديمقراطية ويخطط سراً وعلناً لإسقاط النظام الديمقراطي.. وتنصيب نظام عربي اشتراكي علماني يضاعف من جراحات البلاد ويبعث في أوصالها القبلية والعنصرية. وحزب البعث العربي نظرية غير صالحة لتربة السودان التي تتمازج فيها المكونات الزنجية بالعربية، ووثوب جماعة انقلابية باسم العروبة على السلطة في السودان من شأنه أن (يحيل) السودان إلى (محرقة) اثنية وعنصرية، حيث لا يزال العنصر الزنجي وبعد انفصال الجنوب يمثل أكثر من (60%) من السكا، ويمثل الفكر الإسلامي المتصالح مع الواقع الخيار الأمثل لحكم السودان وتوحيده على قواعد عادلة وتوافق بين المكونات الشعبية الكبيرة التي تمثل الشعب.. أما الحزب العربي الاشتراكي وبنزوعه نحو الانقلابية، كما جاء على لسان “محمد ضياء الدين”أحد قادته (المعلنين) فإنه حزب نحر العراق وانتحر في سوريا.. ويسعى لبث أمراضه في وطن مثل السودان!!
{ الاتحادي حزب لا تنقضي عجائبه!!
ضاعف قرار خوض الانتخابات القادمة أو مقاطعتها من محن (وبلاوي) الحزب الاتحادي بقيادة مولانا “محمد عثمان الميرغني” وعادت حالة الصراع والاستقطاب بين أجنحة الحزب إلى الظهور مرة أخرى.. وتبادل قيادات الحزب ورموزه النقد العلني في غياب رئيس الحزب مولانا “محمد عثمان الميرغني” الذي (لا يجرؤ) أحد من الاتحاديين أو حلفائهم في الحكومة والمعارضة معاً عن السؤال، ما هي الأسباب التي جعلت “الميرغني” يقيم في “لندن” منذ سبتمبر من العام قبل الماضي.. هل “الميرغني” مريض؟؟ أم لا يزال مرعوباً من تظاهرات سبتمبر التي جعلته يغادر البلاد وابنه مساعد الرئيس؟؟ وفي غياب السيد “محمد عثمان” تؤول مقاليد قيادة الحزب لابنه “محمد الحسن الميرغني” باعتباره الوريث الشرعي للحزب الاتحادي ورمز القداسة ومركز الولاء الذي يجمع الاتحاديين والختمية، ولا يخرج عن طاعة آل البيت إلا من هو غير (متأدب) بآداب الطائفية وإرثها في استمالة الناس واستقطابهم.. وإذا ما غيب مغيب السيد “محمد عثمان الميرغني” فإن رئاسة الحزب بطبيعة الحال لن تذهب لدكتور “علي السيد” ولا “الباقر أحمد عبد الله” ولا “جلال الدقير”.. أو “عثمان عمر الشريف” ولكنها ستؤول تلقائياً لأبناء السيد “الميرغني”، إما بوصية الوالد المقدسة أو بالتراضي السكوتي.. وكذا الحال في حزب الأمة الذي لن يحكمه إلا من يرتبط بجينات السلالة المهدوية.. وحينما اكتشف “الميرغني” الغائب عن المسرح السياسي وجود انقسام وسط قيادات الحزب بشأن الانتخابات.. فتح نوافذ الرفض للتيارات التي لها موقف مبدئي من التحالف مع المؤتمر الوطني لتجهر بصوتها الرافض.. ولكن الموقف الحقيقي المعبر عن الحزب الاتحادي الديمقراطي احتفظ به “الميرغني” عند ابنه “محمد الحسن” ليقدم مرشحي الحزب لدى هيئة الانتخابات.. ولكن في ذات الوقت يستفيد “الميرغني” من الظواهر الصوتية الأخرى داخل الحزب والتي ربما زادت من حصيلة المقاعد النيابية المجانية التي حصل عليها الحزب بتنازل المؤتمر الوطني عنها للاتحاديين، وقد بلغت (24) مقعداً.. ويستطيع “الميرغني” الحصول على ضعف هذا العدد إن هو أقبل على المشاركة وحزبه موحد.. والأصوات التي حصل عليها الاتحادي في آخر انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب جرت في البلاد عام 1986م، كانت أكثر من الأصوات التي حصل عليها حزب الأمة، رغم أن الاتحادي لم يحصل إلا على (63) مقعداً.. وحصل حزب الأمة على (101) مقعد.. ويمكن للاتحادي الديمقراطي هزيمة المؤتمر الوطني في دوائر عديدة بوسط البلاد وشمالها، إن هو تسلح بالشجاعة والعزيمة.. وفك الارتباط المصلحي بين طموحات وأشواق “الميرغني” وأهداف الحزب الاتحادي الديمقراطي.. وصراع التيارات في الحزب الاتحادي قديم وتوارثته الأجيال المتعاقبة، لكنه صراع نظيف ليس كصراعات الأحزاب العقائدية التي تصل مرحلة التصفيات والإلغاء من الوجود.. وذلك يعود لطبيعة الحزب التي تشبه سلوكيات طبقة التجار وصغار الموظفين.
ووجود تيارات معارضة داخل الاتحادي الديمقراطي يعتبر ظاهرة إيجابية ولكنها لا ينبغي لها تعطيل مصلحة الحزب، في المساهمة الإيجابية في توطين الديمقراطية وفتح سقوفات الحوار لاستيعاب الآخر.. كسب الاتحادي الديمقراطي خلال سنوات مشاركته في السلطة من جهة الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ظل ضعيفاً جداً.. وبدأ الحزب كأنه ارتضى السير بالقرب من المؤتمر الوطني.. ومشاركة الحزب في الانتخابات بأمر السيد “محمد عثمان الميرغني” تمثل خطوة في اتجاه استعادة الاتحادي الديمقراطي لأراضيه التي فقدها؟؟