السفير "مصطفى مدني" اول رجالات السلك الدبلوماسي يفتح حقيبة الذكريات لـ(المجهر)
الخارجية اول وزارة انشأت بعد السودنة وهؤلاء اول السفراء ..
هاكذا خطف المحجوب الاضواء في اجتماعات الامم المتحدة
حوار – مي علي
مع حلول ذكرى الاستقلال المجيدة التي تعطر سماءنا هذه الايام، كان لا بُد لنا من استرجاع الذكريات واللحظات التي سبقت وتلت اعلان الاستقلال، عبر رجال عاشوا تلك الأيام وعاصروها وصنعوا بعض أحداثها المهة .
السفير مصطفى مدني أبشر كان واحد من ذلك الرعيل الذي ناهض المستعمر طالباً وشاباً وطنياً مملوءاً بالحماس الوطني الدافق، ثم دبلوماسياً عريقاً شهد وضع اللبنات الأولى للدبلوماسية السودانية عقب الاستقلال وكان من اوائل الذين تدرجو في السلك الدبلوماسي .. وينتمى مدني لمدرسة محمد أحمد المحجوب، أول وزير للخارجية عقب الاستقلال، حيث عمل معه وسار على نهجه وكان قريباً منه وأمسك طوال عمله الدبلوماسي الذي امتد لثلاثين عاماً بالكثير من الملفات المهمة في عدة محطات خارجية، كانت أهمها في بيروت ونيويورك واديس أبابا.
بأريحية ولطف وكرم بالغ استقبلنا السفير مصطفى مدني بداره العامرة بالخرطوم، واسترسل معنا في سرد ممتع لكثير من حكاوي وذكريات وأسرار الدبلوماسية السودانية منذ اعلان الاستقلال وطوال فترة عمله بوزارة الخارجية.
• بداية حدثنا عن تكوين وزارة الخارجية باعتبارها أول وزارة أنشأها السودانيون بعد الاستقلال؟
_ وزارة الخارجية صنعها السودانيون، لذلك تم اختيار الكادر العامل بها من ذوي الخبرة والدراية على مستوى السفراء، بالنسبة للكوادر الوسيطة تم اختيارهم من الفئة التي تلقت تعليماً جامعياً، ومن بعدهم نحن ناشئة السلك الدبلوماسي وكنا خريجين جدد. كان الحماس هو القاسم المشترك بين الجميع من السفير وحتى السكرتير الثالث، حتى نصنع من الدبلوماسية السودانية كياناً يشار إليه.
وتزامن استقلال السودان في العام 1956 مع ظهور حركات التحرر في أفريقيا، وكان لا بد للسودان أن يجد له موقعاً، كما كانت المنطقة العربية تعج بأحداث سياسية كبيرة، وذلك بتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، الشيء الذي أدى إلى بروز التيار القومي في العالم العربي. ووجدت الدبلوماسية السودانية نفسها في خضم أحداث كبرى، فتعلمت من التجارب من حولها في المحيطين العربي والأفريقي.
• هل اقتصر دور الدبلوماسية السودانية في ذاك الوقت على المحيطين العربي والأفريقي فقط ؟
_ لا.. فقد خرجت الدبلوماسية السودانية إلى آفاق الدولية في أواخر العام 1956، وذلك عندما وضعت مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة شكوى الاعتداء الثلاثي عليها وأزمة قناة السويس.. كان وزير الخارجية في ذلك الوقت “محمد أحمد المحجوب”، وكان رجلاً يتملك تجارب كبيرة في المحيط الدولي، فقاد وفد السودان المشارك في أعمال الجمعية العامة في أواخر العام 56 وأوائل 57، للدفاع عن مصر في الحفاظ على حقها في قناة السويس وسحب الجيوش الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية من الأراضي المصرية.. حدث ذلك ولم يمضِ على إعطاء السودان عضوية الأمم المتحدة سوى بضعة أيام، وتم تعيين السفير “يعقوب عثمان” كأول مندوب للسودان في الأمم المتحدة، ولعب “محمد أحمد المحجوب” دوراً كبيراً في الأمم المتحدة مما أعطى السودان الجديد ثقلاً.. واختارت المجموعة العربية “المحجوب” كمتحدث رسمي باسمها.. وكان هذا حدث كبير كأول وزير خارجية للسودان بعد الاستقلال، وألقى “المحجوب” كل خطابات المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا الشيء أعطى الدبلوماسية السودانية قفزة كبيرة، حيث كتبت الصحف البريطانية والأوروبية عن المتحدث باسم المجموعة العربية وزير خارجية السودان الذي ارتبط اسمه بالدفاع عن مصر.
• من هم السفراء الأوائل الذين مثّلوا السودان في المحطات الخارجية؟
_ المنطقة العربية (سوريا، الأردن، لبنان والعراق) مثّل السودان فيها السفير “جمال محمد أحمد” وكان مقيماً في بغداد. أما مصر فقد كان أول سفير بها هو “يوسف مصطفى التني”، وفي أديس أبابا كان السفير “خليفة عباس”.
الكوادر الوسيطة كان فيها شباب ذوو كفاءة عالية منهم “عبد الكريم ميرغني”، و”فخر الدين محمد”. وفي الكوادر الصغيرة كنا نحن الشباب الذين عاصرنا نهاية الحركة الوطنية، ومنها التحقنا بالعمل في وزارة الخارجية ودماؤنا ما زالت (حارة)، والتقارير الدبلوماسية التي كنا نكتبها كانت حماسية أيضاً.. أذكر أنني كنت دبلوماسياً صغيراً في أديس أبابا وكتبت تقريراً لوكيل الوزارة “جمال محمد أحمد”، قلت له فيه: (هذا الجنين الثوري في إريتريا لا تدافعوا عنه والإمبراطور يقتل الناس). فكان تعليق الوكيل: (الولد ده تاورو المرض القديم ولا شنو).
بصورة عامة، العمل الدبلوماسي في تلك الفترة التي تلت الاستقلال كانت المصلحة العامة هي همّنا الأول والأخير.. وكانت المرتبات التي نتقاضاها ضئيلة بالنسبة لدبلوماسيي الدول الأخرى في ذات المحطات، لكن الجميع كانوا حريصين على تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية، ولم يكن أحد من دفعتنا يفكر مثلاً في شراء قطعة أرض تخصه.
• كنت واحداً من شباب الحركة الوطنية.. هل انضممت لأي حزب آنذاك؟
– كنا في شباب الحركة الوطنية نخرج في التظاهرات، ونذهب لنادي الخريجين، ونتحدث مع الزعيم “الأزهري” ونقول له يجب أن تعمل كذا وكذا.. كان قادة الحزب الشيوعي في ذلك الوقت “عبد الخالق محجوب” و”التجاني الطيب”، ولم يكن هناك حزب للإسلاميين، فقط حزبا (الأمة) و(الاتحادي)، لذلك انضم معظم الشباب لليسار.. لم نكن نقبل الانضمام للحزبين (الأمة) و(الاتحادي) لأسباب سياسية، لذلك اتجه معظم الشباب والمثقفين ناحية اليسار الذي كان يطالب باستقلال البلاد.
• ما مساهمتكم في نيل الاستقلال.. بعد انجذابكم لليسار كيف كانت تتم تحركاتكم التنظيمية؟
_ معظم أبناء جيلنا اتجهوا نحو اليسار الذي كان يمتلك تنظيمات وخلايا تجتمع في مناطق سرية، وكانوا يقومون بتنظيم التظاهرات ويعلنون عنها بطرقهم السرية.. كان اليساريون هم الذين يحركون الشارع، وكان شباب الوطني الاتحادي والأمة يخرجون أيضاً في التظاهرات.. وكان اليسار ينادي بسقوط الاستعمار لذلك تمكن من استقطاب أعداد كبيرة من المؤيدين.
• صف لنا مشاعرك يوم إعلان الاستقلال؟
_ هو يوم صعب على الوصف.. أنا درست الجامعة في بريطانيا وتخرجت في ذات عام الاستقلال، ولحسن الحظ حضرت يوم الاستقلال، كان قادة الحركة الوطنية يأتون إلى بريطانيا إبان فترة الدراسة، وكنا نحن شباب الحركة الوطنية نقدم لهم واجب الضيافة ونتحدث إليهم بكل شفافية ومباشرة ونحاسبهم ونهاجمهم هجوماً عنيفاً حول عدد من القضايا السياسية، وكانوا يردون علينا بكل رحابة صدر لأننا كلنا معاً في الهمّ الوطني.
وأتذكر أننا كنا نقاطع خطابات القادة كـ”المحجوب” و”الأزهري” بصوت عالٍ وكانوا يرهبوننا، وكان بعضهم يسعى لتهدئتنا.. كنا شباباً لا نخشى شيئاً.
• حدثنا بالتفصيل عن يوم إعلان الاستقلال؟
_ أذكر أنني في يوم إعلان الاستقلال خرجت من أم درمان حيث أسكن وكنا نؤلف القصائد الوطنية ونحن سائرين، وكنت أردد واهتف بصوت عالٍ: (يوم الجلاء.. يوم الجلاء.. هذه صرخة الشعب يوم الجلاء).. كنت أردد تلك الأبيات وترددها خلفي الجموع، كنا نركض إلى أن وصلنا البرلمان في الخرطوم.
• وزارة الخارجية باعتبارها وزارة ناشئة.. ما هي الآلية التي كانت متبعة في اختيار السفراء؟
_ كنت أنا و”أبو بكر عثمان محمد صالح” أول سفيرين تدرجنا من أول السلم الوظيفي من وظيفة سكرتير ثالث، ما عدا ذلك تم تعيين السفراء من قبل القيادة السياسية في البلاد– “إسماعيل الأزهري”– حيث تم تعيين معظم السفراء من الحزب الاتحادي، لكن كان هناك عدد لا يستهان به من حزب الأمة أيضاً إذ لم يحتكر الحزب الاتحادي الوظائف، مثلاً “يوسف التني” كان ينتمي لحزب الأمة وكان عضواً بلجنته المركزية، أيضاً “يعقوب عثمان” مندوب السودان في الأمم المتحدة كان حزب أمة، و”جمال محمد أحمد” صحيح كان اتحادياً لكنه لم يكن مسيساً.. بصورة عامة يمكن القول إن التعيينات كانت قومية لذلك نجحت في مهامها.
• التعيينات السياسية بوزارة الخارجية قد تكون مقبولة في بداية تكوينها عقب الاستقلال.. لكن بصورة عامة هل أنت مع التعيينات السياسية في العمل الدبلوماسي؟
_ التعيينات السياسية بدأت في عهد (حكومة أكتوبر)، لكن بصورة قليلة، وفي عهد (حكومة مايو) بدأ الرئيس “جعفر نميري” يعين ضباطاً من الجيش للعمل كسفراء، لدرجة أن معظم من استغني عنهم من الخدمة في الجيش عينوا سفراء في وزارة الخارجية، لكن تعيينات الضباط لم تكن بأعداد كبيرة، كما أنه والحق يقال كان “نميري” إذا وصلته أية شكوى من الخارجية ضد السفير الضابط يأمر بسحبه مباشرة.
وعموماً على مستوى العالم، فإن التعيينات السياسية موجودة في العمل الدبلوماسي، مثلاً الرئيس الأمريكي حينما يصل إلى السلطة يقوم بتعيين أربعة أو خمسة سفراء من حزبه في محطات مهمة لضمان نوع محدد من العلاقات مع تلك الدول، لكن بمجرد انتهاء فترة رئاسته يقوم مباشرة بسحب السفراء من وزارة الخارجية. لكن في العهد الحالي يكاد يكون كل السفراء من التعيينات السياسية، وهذه التعيينات لا تنحصر فقط على درجة السفراء بل إن النظام الحالي ابتدع التعيينات في الكوادر الوسيطة، كأن يتم التعيين في درجة مستشار، متخطين بداية السلم الوظيفي وقوانين السلك الدبلوماسي.
• ما هي أول محطة خارجية عملت فيها كسفير لبلادك؟
_ أول محطة كانت بيروت، وكنت محظوظا جداً أن كانت لبنان أول محطة أعمل فيها كسفير، لأن السفراء الذين سبقوني– “جمال محمد أحمد”، و”خليفة عباس” – أرسيا قاعدة صلبة للسودان في عاصمة الأرز. وقبل أن أعمل سفيراً كنت قائماً بالأعمال في بيروت مع السفير “خليفة عباس”، وفي أكتوبر 1964 رُقيت إلى درجة سفير ورُشحت للعمل في لبنان وبقيت لأربعة أعوام أخرى.
• إذن كنت على دراية بطبيعة العمل في لبنان؟
_ ليس هذا فحسب، بل كونت قاعدة كبيرة من الصداقات بدأتها حينما كنت طالباً في الجامعة الأمريكية ببيروت، وشاءت الأقدار أن لا أكمل دراستي حيث قمت ورفيقي الفلسطيني الجنسية “شفيق الحوت” بعدد من التظاهرات فحُبست (59) يوماً رُحِّلت بعدها إلى السودان، ومنه ذهبت إلى لندن حيث واصلت دراستي في جامعة (كامبريدج) وتخرجت فيها بمرتبة الشرف. وحينما عدت إلى بيروت كسفير وجدت أصدقاء الدراسة أصبحوا مسؤولين كبار ووزراء ورؤساء تحرير صحف كبيرة. وكان رفيقي في المعتقل “شفيق الحوت” مديراً لتحرير مجلة (الحوادث) ذائعة الصيت وقتذاك، وكنت إذا (كحيت) تجد في عدد المجلة في اليوم التالي: (سفير السودان كح). وأذكر مرة في إحدى زيارات “المحجوب” إلى بيروت قال له رئيس تحرير إحدى الصحف: (يا دولة الرئيس إذا نقلتوا صديقنا مصطفى لن نكتب شيئاً في صحفنا عن السفير الجديد إلا تدفعوا لنا فلوس)، وكانت عادة الصحفيين في بيروت أن تدفع لهم مبالغ نظير كتاباتهم.
• لبنان كمحور للحراك العربي في ذلك الوقت بما فيه من تقاطعات ومصالح.. كيف كان عملك فيه؟
_ العمل في لبنان كان مهمة صعبة ومثيرة.. كانت لبنان تحرك العمل الدبلوماسي مع الدول الأخرى بصورة كبيرة.. مثلاً أنا كنت أذهب إلى الرئيس “ياسر عرفات” في مخبئة بالأردن، كنت أخرج من لبنان بسيارتي من دون أن أعلق عليها علماً وأدخل الأردن بصورة طبيعية باعتباري سفيراً في الأردن، وأيضاً سوريا، كنت عندما أصل عمان أدخل بسيارتي إلى أحد الجراجات الكبيرة وأخرج من الناحية الأخرى بسيارة جديدة للتمويه، وكنا نسلك طرقاً ملتوية، وعند نقطة ما في الظلام تجد حراس “ياسر عرفات” بلحاهم الطويلة، وبعدها يتم إنزالي إلى تحت الأرض سالكاً خندقاً ضيقاً جداً إلى أن أجد محل إقامة “عرفات” في قاع الخندق.
• بعد هذه المغامرة تحت قاع الأرض.. ما هي طبيعة العمل الذي كنت تديره مع الفلسطينيين؟
_ كنت أريد معرفة في ماذا يفكر “ياسر عرفات”.. كان “جورج حبش” في الجناح الثاني للمقاومة في الحركة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان لا يقل عن “عرفات” قوة، وكان “حبش” يدرس في ذات الجامعة التي بدأت فيها سني دراستي ببيروت وكنا أنا وصديقي “شفيق الحوت” كثيراً ما نقوم بمشاكسته في منبر يسمى (الجمعية الوسطى) في الجامعة، وكان “جورج حبش” ضخم الجثة وفي مرة قام برمينا من نافذة القاعة. وعندما عدت كسفير اتصلت به وقابلته في أحد الفنادق فقلت له ممازحاً: (هل سترميني من النافذة أيضاً)، فضحك وقال لي بلكنته الشامية: (لا.. أنت هلا سفير كبير).
كنت أريد معرفة رأي “جورج حبش” في الحركة الفلسطينية، وكذا رأي “ياسر عرفات”.. كنت أصوغ ذلك في شكل تقارير وأرسلها إلى الخرطوم. وفي يوم طلب مني “جورج حبش” إيصال رسالة إلى “ياسر عرفات” تفيده بأن الملك “حسين” ملك الأردن لن يصبر طويلاً على مسألة تكوين دولة داخل دولته، وأن هذا شيء خطير جداً، أوصلت الرسالة إلى “عرفات” الذي رد بقوله إنهم متحسبون لأية خطوة، فما كانت إلا أيام قليلة حتى قام الملك “حسين” بضرب مجموعة “ياسر عرفات”.. هذه الحادثة توضح مدى الثقة لدى طرفي القضية الفلسطينية في شخصي، وكانوا يملكوني معلومات أقوم بإيصالها إلى الخرطوم.
• ماذا عن دور الدبلوماسية السودانية في قضايا المحيط الأفريقي؟
_ بعد عام واحد من إنشاء وزارة الخارجية وفي العام 1958 أعلن “كوامي نيكروما” عن مؤتمر الدول الأفريقية المستقلة، وهو المؤتمر الذي قاده السودان مع مصر، وهذا الاجتماع كان نواة لمنظمة الوحدة الأفريقية، وأذكر هنا أنه ونسبة لموقفنا التحرري طلبت منا مجموعة من الشباب الكاميروني– اتحاد شعب الكاميرون- كانت مناهضة للاستعمار الفرنسي، طلبت حق اللجوء السياسي كأول دولة أفريقية يُطلب منها ذلك.
• طلب الشباب الكاميروني حق اللجوء السياسي في السودان.. هل تعدّونه نجاحاً للدبلوماسية السودانية؟
_ قطعاً هو نجاح للدبلوماسية السودانية.. كانت الخرطوم تتبنى الخط الداعم لحركات التحرر في أفريقيا.. ووافق السودان على منح اتحاد الشعب الكاميروني حق اللجوء السياسي كأول دولة أفريقية تفعل ذلك.
• ألا ترى أن الموافقة على منح اللجوء لشباب ثوري أفريقي خطوة متعجلة؟
_ كانت خطوة تحمل في طياتها الخطورة لا سيما مع وجود فرنسا على الحدود الغربية في دولة تشاد، وكان من الممكن أن تمارس أي ضغوط على الحكومة في الخرطوم.. حملت طلب شباب الكاميرون الذي كتبه رئيس المجموعة أثناء مقابلتي له في غانا، وفي ذلك الوقت قمت بتعريف رئيس المجموعة بـ”محمد أحمد المحجوب”، وعندما حملنا طلب اللجوء لمجلس الوزراء الذي كان برئاسة “عبد الله خليل” كنا نحن كشباب في الخارجية نخشى رفض الطلب.. وأذكر أن الوكيل “محمد يعقوب عثمان” استدعاني إلى مكتبه وطلب مني مساعدته في صياغة الطلب لمجلس الوزراء، وحملناه إلى مجلس الوزراء وحدثت خلافات شديدة حول تمرير قرار منح اللجوء للشباب الكاميروني، وفي النهاية تمت إجازة القرار واستقبلنا ستة من الثوار الكاميرونيين في الخرطوم وقمنا باستئجار منزل لهم في (الجريف) شريطة عدم ممارسة أي نشاط سياسي. وبعدما استقروا لفترة من الزمن بدأوا يتذمرون من منعهم ممارسة نشاطاتهم السياسية فتقدموا بطلب لجوء إلى مصر، ورحب بهم “عبد الناصر” الذي فتح لهم الإذاعات لشتم فرنسا كما يودون.
• ما هي الترتيبات التي سبقت انعقاد مؤتمر قمة (اللاءات الثلاث) بالخرطوم وأنت كنت أحد معاصريه؟
_ أولاً لا بد من ذكر أن من سعى لإقامة هذه القمة هما “الأزهري” و”المحجوب”، وكانت إنقاذاً ليس لـ”عبد الناصر” وحده بل لكل المنطقة. انعقد المؤتمر في أول سبتمبر 1967 بعد شهرين من النكسة وهزيمة “عبد الناصر”، ويعد انعقاد المؤتمر في حد ذاته إنجازاً كبيراً للدبلوماسية السودانية.. أيضاً فإن القرارات التي خرج بها المؤتمر– أقول قرارات وليست توصيات– كانت ممتازة جداً وعليها إجماع كامل من كل المشاركين، وأهمها اقتراح السودان بدفع مبلغ محدد لإعادة تسليح الجيش المصري، وتكفلت كل من السعودية والكويت وليبيا بدفع مبلغ (58) مليون دولار.
ثم القرار الثاني بأنه (لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض) مع إسرائيل.. وفي رأيي أن قرار دعم الجيش المصري وإعادة تسليحه هو أهم ما خرجت به القمة وليس (اللاءات). وبالفعل أعاد “عبد الناصر” بناء الجيش المصري وخاض به حرب الاستنزاف.
وأشير هنا إلى أن (لاءات) مؤتمر الخرطوم كانت أربع لاءات بعدما طالب الوفد الفلسطيني بإضافة (لا اتصال) مع إسرائيل إلا بعد الرجوع للجامعة العربية، لكن المؤتمر رفض الموافقة عليها وانسحب الوفد الفلسطيني، وكان يمكن لهذه (اللاء) نظرياً لو تمت الموافقة عليها أن تقيّد “السادات” وتثنيه عن الذهاب إلى القدس وتوقيع اتفاق مع إسرائيل.
وكما ذكرت لك فإن عقد المؤتمر بالخرطوم يعد إنجازاً كبيراً، وقد نجح السودان في عقد مصالحة بين الملك “فيصل” و”عبد الناصر”، وكانت تلك المصالحة هي السبب الرئيسي لنجاح المؤتمر، حيث نجح “المحجوب” في جمعهما بمنزله قبل الاجتماع الأول للمؤتمر.