شيخ النقاد الصحفي "ميرغني البكري" في حوار الاستقلال:
بدأت الصحافة بالمراسلة قبل الاستقلال واحتفظت بمهنة (السروجي) لهذه الأسباب
الغناء الهابط سببه إذاعة (أم درمان) لإيقافها تسجيل الأغاني العاطفية..
الرئيس “محمد نجيب” له الفضل في توحيد الأحزاب الاتحادية والأحزاب التي نادت بالاستقلال
الراحلان “محمد عوض الكريم القرشي” و”عثمان الشفيع” أول من بدا الغناء الوطني في الإذاعة
حاورته ـ نهلة مجذوب
شاهد على العصر معاصر للاستقلال المجيد صحفي معتق، التقته (المهجر) في حديث الاستقلال وفترته، ضيفنا كشف لنا جوانب عديدة كونه أحد جنود تلك الحقبة، قارن بين الماضي العريق والمستقل الزاهر، واستعرض ملامح مهمة في استقلال السودان، إنه الأب الروحي وشيخ النقاد أطال الله في عمره الزاهي الأستاذ القدير “ميرغني البكري” في حوار استثنائي.
{ أستاذ “ميرغني” أحداث في الاستقلال تبدو عالقة بذاكرتك؟
– من ذكرياتي كشاهد عيان وعصر قبل إعلان الاستقلال إن أحداثاً سبقته وغيرت في التاريخ وذلك في عام 1954م بعد أن حدثت معارك أول (مارس) عندما زار الرئيس المصري اللواء “محمد نجيب” السودان وفي نفس العام أُقيل واعتقل في قصر “زينب الوكيل”، وإحالة “محمد نجيب” واعتقاله أدت إلى مظاهرات حاشدة عمت كل مدن السودان تعاطفاً وتآزراً مع الرجل الذي كان له الفضل في توحيد الأحزاب الاتحادية وتفضيله خيار المفاوضات التي كانت ستجرى مع السودان، مقدماً بتلك قضية بلدنا ومصيره على قضية مصر.
وأيضاً لعلاقته الممتدة مع السودانيين الذين كانوا يزورون “القاهرة” ومنزله بـ(حلمية الزيتون) كان لا يخلو يومياً من استضافة شخصيات سودانية، وكان كل السودانيين يعتبرونه كواحد منهم لهذا التعاطف والتآزر، وفي تلك الأيام التي أُقيل فيها “محمد نجيب” عن الحكم كان الرئيس “إسماعيل الأزهري” في زيارة لـ”المملكة المتحدة” وعلى ما أذكر أن رئيس الوزراء في ذاك الوقت بالإنابة كان الراحل “مبارك زروق” الذي بعث ببرقية للأزهري وهو في “لندن” وحذره بأن لا يدلي بأي تصريح عن مستقل السودان السياسي، لان الأوضاع قد انقلبت رأساً على عقب، ومن ثم توحدت الكلمة في الاستقلال التام بعد ما كان الحزب (الاتحادي الوطني) ينادي بالاتحاد مع مصر.
{ إذن ما رأيك في هذا التآزر؟
– في اعتقادي لولا هذا التآزر مع “نجيب” واستمرار الميرغني الاتحادي بالمناداة بالاتحاد مع مصر لقامت حرب أهلية بين الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الاتحادي)، ويحمد للرئيس السابق “جعفر نميري” أن أطلق اسمه على أكبر شوارع الامتداد بالخرطوم، هذا في الوقت الذي لم يعمل شارع كبير في “القاهرة” مثل (شارع محمد نجيب)، ورحم الله الأزهري ورفاقه الكرام في أحزاب (الأمة) و(الاتحادي) وكل الأحزاب التي نادت بالاستقلال التام والذي حدث بالفعل في البرلمان.
{ أين كنت تعمل في ذاك الوقت؟
– 1954م كنت عاملاً بالسوق الأفرنجي، ووالدي كان يكره الاستعمار ورفض أن أعمل في الحكومة واتجهت للعمل الحر.
{ ومتى كانت بدايتك مع الصحافة؟
– بدأت العمل في الصحافة عن طريق المراسلة في البريد، وأذكر أن موقع الصحف كنت لا أعرفه، ومن العام 1949م إلى 1956م كانت مراسلة الصحف وبدأ العمل الفعلي سنة 1956م في مجلة (الصباح الجديد) وكانت مراسلتي في النقد الاجتماعي، والتحقت كموظف رسمي في مجلة (الإذاعة) في 1965م، وعندما توقفت المجلة في سنة 1989م نقلت إلى (وكالة السودان للأنباء) حتى خرجت في المعاش في 1995م، وخلال هذه المدة الطويلة لم أترك العمل كـ(سروجي) أفرنجي في شارع الجمهورية، لذا أنا افتخر كوني عامل أكثر من صحفي، لان العمل الصناعي جعلني أعول إخواني فزواجي وتعليم أبنائي ودخله أكثر من الدخل الصحفي.
{ كيف كان النقد الاجتماعي وقتها؟
– كان نقدي في الصور الشاذة في المجتمع، كان لدي عمود ثابت في جريدة (التلغراف) بعنوان (صور من الحياة) ولما ظهرت جريدة (الأيام) عام 1952م كنت أراسلها رياضياً.
{ إذن كنت ناقداً رياضياً؟
– استمريت في الصحافة الفنية وشاهدت بداية طفح العنصرية والتحزب الرياضي في الصفحات الرياضية، ولما ألحقني رئيس تحرير (الصباح الجديد) معه في الصفحة الرياضية دون استئذاني غضبت لانتهاك كرامتي وكرهت النقد الرياضي خاصة بعد كسر قدم صديقي واللاعب الذي أحبه كثيراً كما الملايين “صديق منزول” عام 1964م، وأنا الذي أطلقت عليه لقب (الأمير)، لهذا اعتزلت النقد الرياضي واتجهت إلى الفني والذي أصبحت فيه شيخاً للنقاد كما أطلقها عليّ البروفيسور “علي شمو”.
{ أين كنت يوم الاستقلال؟
يوم الاستقلال كنت في (ميدان كتشنر) ميدان وزارة المالية الحالي غرب القصر في الاحتفال، وكانت الإذاعة لديها سماعات موزعة في أرجاء المكان لإذاعة مراسم رفع العلم، فكان المذيعون على ما أذكر “صلاح أحمد”، “أبو عاقلة يوسف” و”علي شمو” الذي استقال من إذاعة (ركن السودان) وانضم لإذاعة (أم درمان).
{ أستاذنا البكري حدثنا قليلاً عن الأغنية الوطنية إبان الاستعمار والاستقلال؟
– الأغنية الوطنية في إذاعة (أم درمان) بدأها الراحلان “محمد عوض الكريم القرشي” و”عثمان الشفيع” بأغنيتي (وطني) و(أرضنا الطيبة) لـ”بازرعة” و”عثمان حسين”، وأول أغنية لرفع الاستقلال كانت لـ”أحمد المصطفى” في الأغنية الوطنية (اليوم عيدك يا وطني) للشاعر “مهدي الأمين” الذي تغنى له فيما بعد (في سكون الليل).
{ ملاحظتك في التغيير الذي حدث في الأغنية السودانية من الاستقلال حتى الآن؟
– قبل الاستقلال وبعده كانت الأغاني الوطنية والهادفة تعم الأجواء وحدث تغيير كبير الآن، فالغناء الهابط ملأ الساحة في الفترة الأخيرة وكل الأسباب ترجع لإذاعة (أم درمان) لأنها أوقفت تسجيل الغناء العاطفي خلال ربع قرن من الزمان، كذلك اختفاء سوق (الكاسيت) الي كانت تنشر الغناء (النظيف)، فالإذاعة عندما كانت تسجل أية أغنية عاطفية جديدة كانت تكثف البث على موعد تقديمها مما يشوق الناس، وبعد بثها تكثف البث عليها مراراً وتكرراً لترسيخها في أذان المستمعين، وهذا التوقف من الإذاعة جعل الناس لا يقبلون الاستماع إلى الجديد سواء أكان قسراً أو دسماً، والمطلوب اليوم سماع الأغاني القديمة التي ألفوها والغناء الهابط في حفلات الأفراح التي تعتمد علي إيقاعين لا ثالث لهما وهما لحن السيرة لـ(التنطيط) والتمتم (لزوم الرقص حتى الركب).