(المجهر) في حضرة الصاغ "الجاك بخيت" رافع علم الاستقلال مع "الأزهري" و"المحجوب"
أول من حيا علم السودان
أم درمان – آيات مبارك
إذا وددنا أن نشتم عبق أيامٍ ماضيات فعلينا التوجه صوب تلك المدينة التي قال عنها المرحوم الأديب “علي المك” (مدينة من تراب).. أزقتها وشوارعها الفسيحة والمبسوطة في وجه القادمين تلفحك سمومها ورياحها بكل سنين الأيام الماضيات لتقرأك (سفر التاريخ) دون تقص .. عندها لا محالة أنك ستسير تحفك النشوة والإعزاز تجاه رجال لمثل هذا اليوم كانوا يعملون .. فكل حجر… وصفحة حصاةٍ هناك ستحكي لك عن سر خطوات ٍ بين (حي العباسية) و(حي بانت) لرجلٍ عاهد الله ثم الوطن وبعدها هاجر مولياً الحياة ظهره .. ووجوه بمجرد رؤيتها تشعر بالفخر والإعزاز وهذا ما شعرنا به فور رؤيتنا لصورة البطل (الصاغ الجاك بخيت) بصحبة الزعيم “الأزهري” و”المحجوب” مشرئبةً على سطح منزلهم .. الذي وصفه لنا غسال الحي بكل دقة .. وفور دخولنا منزلهم استقبلتنا ابنته أستاذة “سلمى” بترحيب عالٍ.
النشأة
حكت لنا ابنته “مريم” عن قصة النشأة والأصل فقالت: والدي من مواليد مدينة شندي 1906م درس الخلوى ثم الابتدائي ثم انتقلنا إلى الخرطوم ليدرس والدي بكلية غردون سنته الأولى، لكن فكرة العمل بالجيش كانت تؤرقه وتم له ما أراد فكان أحد (12) شخصاً كانوا نواة لسلاح المهندسين. وشارك في الحرب العالمية الثانية 1946م في (كرن) و(القلابات) واختير ضمن قوات دفاع السودان وقبل الجلاء قلدته ملكة بريطانيا (نيشان الخدمة الطويلة.)
أبو الجيش
أما ابنه “علي الجاك بخيت” فبدأ حديثه مبدياً اهتمامه بدور القوات المسلحة السودانية في استقلال السودان، وأن رفع العلم على يد والده جاء نتاجاً لهذه المجهودات من قبل الجيش السوداني فقال: (في عام1954 أصدر البرلمان السوداني قراره التاريخي بخصوص استقلال السودان من داخل البرلمان وجلاء قوات الدولتين..والذين رفعوا علم السودان هم السيد “إسماعيل الأزهري” رئيس أول حكومة وطنية منتخبة وهو يمثل الشعب السوداني ومعه ممثل المعارضة “محمد أحمد المحجوب” ومعه الصاغ “الجاك بخيت”، وهو يمثل الجيش السوداني. ولا يخفى على الجميع بأن الجيش السوداني كان له دور كبير في استقلال السودان كما أن قوة دفاع السودان اشتركت في الحرب العالمية الثانية، كما وعد الجنرال “تشرشل” رئيس الإمبراطورية البريطانية الهند ومصر والسودان إذا انتصرت (قوات الحلفاء) ضد (قوات المحور) فسوف تمنح هذه الدول الاستقلال الكامل. وفي سنة 1953م منحت بريطانيا الحكم الذاتي للسودان، حتى نال السودان استقلاله. ويعتبر تمثيل الصاغ “الجاك بخيت” برفع علم السودان إيذاناً باستقلال السودان في حد ذاته، تكريماً للقوات المسلحة على مدى تاريخ كفاحها ضد المستعمر حتى نال السودان استقلاله .
يوم رفع العلم
تحدث لنا ابنه “محمود” بدقة وفخر عن تفاصيل ذاك الصباح الباهي وقال: خرج والدي مرتدياً الزي العسكري متوشحاً بالنياشين آخذاً السيف بيده واستقل (عربة الجيش) إلى القصر الجمهوري، ليمثل اللحظة التاريخية وقائداً لطابور السير من القصر الجمهوري لوداع المستعمر إلى السكة حديد .. وبعد لحظة رفع العلم توافد المعارف والجيران لتقديم التهاني ولكأن استقلال السودان ورفع العلم تم في بيتنا ليصبح والدي بطل الأمة منذ تلك اللحظات الخالدة، وبعدها تقاعد للمعاش في عمر (65) عاماً أو أكثر بسنوات في رتبة مقدم. ولما جاء حكم “نميري” قام بترقيته وهو في المعاش لرتبة عقيد، وعندما كان والدي في الجيش كان الرئيس “جعفر نميري” آنذاك من الضباط الصغار.
أبناؤه
وقد كان العم “الجاك بخيت” مهتماً بالتعليم خصوصاً البنات وقد رفد الحياة العسكرية بعدد من الأبناء لهم دور كبير في الجيش السوداني وهم “مصطفى” أول مترجم إنجليزي بالإذاعة والتلفزيون”، المرحوم “عبد الكريم الجاك” كان ضابطاً، المقدم معاش الدفعة (10) كلية حربية حكومة عبود (رائد) دفعة “خالد حسن عباس” “علي الجاك بخيت “، عميد معاش “مريم”- فندقة وسياحة)، “علوية الجاك” (ميترون)، “سلمى الجاك” – (موظفة بالمعاش سوداتل) ورقيب أول معاش مهندس بترول “محمود الجاك”، “حسين” نقيب في الجيش بالمعاش و(المرحوم )”محمد الحسن” درس هندسة بألمانيا والمرحوم “حسن الجاك بخيت” رقيب فني طيران وتسليح طائرات مقاتلة – الدفعة 23 دورة تسليح في بريطانيا، المرحوم “أحمد الهادي” فني ديكور “بشرى” موظف (متوفي) عميد معاش “علي” الدفعة (17) كلية حربية.
“الجاك بخيت” الإنسان وآخر لحظات حياته
وعن وجهه الآخر حدثتنا ابنته “سلمى” فقالت:
كان خليفة (الطريقة الختمية) ويتلو القرآن الكريم خصوصااً عند الصباح. مسؤول من حولية (السيد علي) السنوية التي تقام بشارع الأربعين، ويقرأ المولد العثماني كثيراً وعند قرب وفاته نادى جارنا “محمود التوم” عشان يقرأ ليه المولد، وأخذت أطراف الحديث حفيدته “عبير” وحكت عن آخر لحظات حياته قائلة: (ورغم صغر سني آنذاك إلا أني أذكر ذلك اليوم جيداً كان يوم وقفة وجمعة في رمضان وهو كان صايم ، فقد اختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره في هذا اليوم العظيم بعد عمر ناهز الـ(90) عاماً من العطاء الوطني والتفاني في خدمة الجيش، وهذا من دواعي حظه وغاية فخري ضابط في الجيش المصري عميد. ثم استدركت “سلمى” قائلة: في أوائل التسعينيات عند ذكرى الاستقلال ارتدى والدي بزته العسكرية ليرفع والدي علم السودان مع الرئيس البشير مرة أخرى، وتم تكريمه في العيد الخمسين للجيش في فترة “نميري”، وتمت ترقيته لعميد. ضابط في قوات الشعب المسلحة وكان يلقب بـ(أبو الجيش) لشدة انضباطه وتفانيه في العمل. وكان ملاكماً في السلاح، ولم يكن هذا بمستغرب علينا وحتى جدي لأمي “فاطمة نورين بحر” كان والدها يعمل بالجيش المصري.
وقفة إجلال وتقدير
رغم المعاناة التي لاقاها الأبطال الأشاوس لطرد المستعمر والكثير من الحركات والثورات التي قامت آنذاك، إلا أن الأجيال اللاحقة لم يتبقَّ لها سوى بعض الأناشيد والدروس التاريخية التي تسردها مع كل ذكرى، لكن مقابل ذلك تظل هنا وهناك بعض الرموز تنبض ذكراها إحياءً وإرضاءً لروح الحمية الوطنية، لذلك كانت لحظة رفع العلم كانت رهن رجل أعطيناه بيدٍ قصيرة بعض وقفة ونقاط حبرٍ تجاه ما قدمه للسودان.