زيارة خاصة لأسرة المحجوب.. وتفاصيل جديدة عن حياته من (الدويم) إلى (الخرطوم 2)
شاهد عصر يكشف قصة نبوءة الجد وأسرار الطفولة بـ(الطلحة)
“سميرة” ابنة الزعيم تحكي: هذا سر استقالة والدي من السلك القضائي
أعدها – نجل الدين آدم – سعدية إلياس
من هذا المنزل الكلاسيكي الراقي بحي الخرطوم (2) سطر زعماء الاستقلال (منفيستو) تقرير المصير، رسموا معالم لمستقبل جديد، اتحدوا على جلاء المستعمر على وجه السرعة، إنه منزل أول رئيس وزراء منتخب بعد الاستقلال المحامي والمهندس “محمد أحمد المحجوب”، فقد كان محط اجتماعات القيادات التاريخية ما قبل الاستقلال وبعده، شأنه شأن منزل الزعيم “الأزهري” الذي كان يدير حراكاً موازياً في مدينة (أم درمان).
(المجهر) سجلت زيارة استثنائية لهذا المنزل العتيق الذي تظهر معالمه المعمارية الجاذبة بالخرطوم ووجدته خاوياً وقد هجره أبناء “المحجوب” منذ وقت ليس ببعيد، ولكن تفاصيل ما قام به من أدوار وطنية ما تزال باقية تفوح عطراً كل ما أطلت ذكرى الاستقلال، زيارة هذا المنزل كانت امتداداً لرحلة توثيق شاملة للراحل “المحجوب” بدأت من مسقط رأسه في مدينة “الدويم” بـ(النيل الأبيض) وتحديداً منطقة “الطلحة”، مروراً بمنزله الشخصي بالخرطوم (2)، ليكون منزل ابنته وكاتم أسراره “سميرة محمد أحمد المحجوب” هو محطة النهاية للتوثيق، وقفنا عندها على تفاصيل لم تنشر من قبل عن الرجل كيف لا وهذا المنزل شهد المصالحة الشهيرة بين الملك “فيصل” والرئيس المصري “عبد الناصر”، ابنها الحفيد الحافظ لتاريخ نضال جده “أمير” حدثنا هو الآخر بالتفصيل عن الأسرة الممتدة والنشأة والميلاد.. (المجهر) تنقل تفاصيل لقاء “الطلحة” حيث مسقط الرأس وما دار من حديث داخل منزل ابنته “سميرة” التي وصلنا إليها بعد رحلة بحث مضنية وجلسنا معها في حوار مفتوح نسرد في هذا الجزء بعضاً مما دار ونكمل بقية الحوار غداً في الحلقة الثانية.
ميلاد ونشأة “المحجوب”
ولد في 17 مايو 1910م ونشأ في كنف خاله “محمد عبد الحليم”، درس بخلوة الفكي “حمودة” بالدويم مدرسة الكتاب الريفية، ثم مدرسة أم درمان الوسطى وكلية غردون التذكارية تخرج فيها مهندساً 1929م، “المحجوب” لم ينقطع عن مدينة “الدويم” طوال سنين الدراسة، التحق بمصلحة الأشغال مهندساً عقب تخرجه براتب قدره (12) جنيه شهرياً وعمل بمدينة “الخرطوم”. تروي ابنته “سميرة” أن والدها درس كليتي (الهندسة) و(القانون) وعمل قاضياً، وتشير إلى أن أصل الأسرة من ولاية (نهر النيل) الشمالية سابقاً وينتمي إلى قبيلة الجعليين.
بداية رحلة التوثيق
قرية “الطلحة” أو الحي الـ(15) مدينة الدويم كانت المحطة الأولى التي انطلقنا منها في مشوار التوثيق لـ”المحجوب” حيث ما يزال منزل الأسرة التي قضى فيها طفولته قائماً رغم تحطم أجزاء منه بعد أن هجره أهله، “محمد سليمان” كان دليلنا إلى المنزل المهجور وآل المحجوب في “الطلحة”، ترعرع “المحجوب” حسبما روى لنا أهل المنطقة في كنف والدته الفضلى “فاطمة عبد الحليم” والتي ورث عنها عشرة أفدنة ما تزال مسجلة على اسمه وهي في حكم الوقف لاستزراعها دون أي مقابل من بعض الأسر بالمنطقة.
وقد حدثنا الأستاذ “الجيلي محمد عبد الوهاب ” حفيد “المحجوب” بداره العامرة، وذكر لنا أصدقاء الطفولة والشباب للزعيم ومنهم الشيخ الحسن – بشير عربي – يوسف عبد المولى وعبد الحكم عبد الله، ويمضي إلى أنه عرف عن “المحجوب” أنه كان كثير الاطلاع منذ طفولته وحلو المعشر وحاضر البديهة تجري الطرفة على لسانه، ويشير “الجيلي” إلى أن “المحجوب” درس بـ(بخت الرضا) و(المدرسة الريفية)، ومعروف عنه اعتماده التام على نفسه، حيث كان يبيع الفرة (نوع من العلف) بـ(سوق الدويم) لتأمين مصاريف الدراسة.
كما تطرق محدثنا وهو أحد أركان حملة “المحجوب” الانتخابية 1964م والتي توجت بفوز باهر لـ”المحجوب”، تطرق إلى ما جرى من احتفالات بالفوز، حيث دعا الشيخ الحسن كل رجالات حزب (الأمة) بالمنطقة أمثال الناظر “يوسف هباني” و”أحمد فضيل” نحر الذبائح وأقام المآدب.
من طرائف “المحجوب”
ومن طرائف الزعيم يروي “الجيلي” أن “المحجوب” قال خلال زيارته لأحد المشاريع للشيخ الحسن ناظر المشروع ممازحاً: “بتعرف اني محامي ومع ذلك لا تعطيني حقي من إنتاج الأرض.. ولو شكيتك بشتكيك لمحكمة خارج السودان)، رد عليه الشيخ الحسن والذي كان متقد القريحة: “والله كل القانون إنت بتعرفو بس قانون زراعتنا دا مابتعرفو لو مويتك كسرت ولو حواشتك وسخانة أو لو القطن تشتت على الأرض بنجيب طلبة يصلحو الخربان كلو من حسابك واحتمال نصادر الأرض بحجة إنك مهمل”.
أصعب المواقف لـ”المحجوب”
ويمضي “الجيلي” في سرده أنه ومما يحكى على لسان أحد ضباط الأمن أن الرئيس المصري “عبد الناصر” عند زيارته للسودان اشترط أن يقابل الزعيم “المحجوب” قبل دخول القصر الجمهوري، كلف الضابط بتأمين الزيارة وعمل (كردون)، فذهب لـ”المحجوب” يخطره بطلب “عبد الناصر” فوجده جالساً تحت شجرة يقرأ كتاباً وواضعاً رجليه على (تربيزة) مرتدياً العراقي – ويحكي الضابط – عند وصول “عبد الناصر” رأى الضابط أن “المحجوب” لم يغير جلسته ولا لبسته، فقال عبد الناصر له: “أزيك يا زعيم”، فرد عليه المحجوب (get out)، فقال عبد الناصر: ليه يا زعيم؟ رد عليه الزعيم: “تتكلم عن تخلص “النميري” من الرجعية وتقصد حكومتي ولا تذكر أن مشكلتك مع الملك “فيصل” أعجزت كل الدول العربية وجامعة الدول العربية وحليتها أنا في بيتي دا”، وبكى “عبد الناصر”.
حياة مثيرة للجدل
حياة “المحجوب” السياسية كانت مثيرة للجدل وذلك لحدة المواضيع التي كانت تطرأ في ذلك الوقت على خارطة السياسة السودانية، فقد دخل الجمعية التشريعية ثم قدم استقالته منها 1950م له مواقف على المستوى الداخلي والخارجي أبرزها مخاطبته لـ”الأمم المتحدة” بتكليف من العرب قاطبة بعد عدواني (56) و(1967م).
له دور في انعقاد مؤتمر القمة العربي صاحب اللاءات الثلاثة بالخرطوم عندما كان رئيساً للوزراء، وفي اجتماع المصالحة بين الملك “فيصل” والرئيس المصري “جمال عبد الناصر” في منزله بالخرطوم في أغسطس سنة 1967م وإسهامه في إعادة توحيد “نيجيريا” بعد اندلاع الحرب الأهلية فيها، كان “المحجوب” رمزاً للدبلوماسية الناجحة، وقد شهدت له أروقة الأمم المتحدة و(منظمة الدول الأفريقية) على براعته وفي إجادته المذهلة للغتين (العربية) و(الانجليزية).
مع أسرة الزعيم
بعد رحلة بحث مضنية كما أشرنا أفلحنا في الوصول إلى منزل الطبيب الشهير “أحمد حسب الرسول” زوج ابنة “المحجوب” الأستاذة “سميرة” التي جلسنا معها لساعات في حديث طويل للنشر وبعضه ليس للنشر، و”سميرة محمد أحمد” هي كاتمة أسرار والدها، فقد كانت في استقبالنا بكرم وحفاوة أهل السودان، جلسنا معها وتجاذبنا أطراف الحديث عن تلك الفرحة التي حدثت آنذاك بتقرير حق المصير للسودان، ومن بعد ذلك تعمق الحديث عن والدها “المحجوب”، وحرصت أن تقول إن هناك جنوداً مجهولين كان لهم السهم الكبير في الاستقلال، ولكنهم لم يذكروا كما ذكر الآخرون، وتقول “سميرة” هنا إن اللجنة الأربعينية هي التي لعبت دوراً كبيراً في نيل الاستقلال، وقد كانت تضم والدها “المحجوب” و”الشنقيطي” و”نقد الله” و”أحمد يوسف هاشم” أبو الصحافة السودانية وآخرين.
تقول سميرة: والدي المحجوب أتولد في “الدويم” واسمه الكامل “محمد أحمد المحجوب إبراهيم عبد الرحيم علي المدني باسبار العمر”، مسقط رأسه من ولاية نهر النيل (الشمالية سابقاً)، والهجرة أيام المهدية أخرجته إلى (النيل الأبيض)، وتمضي في حديثها أنه لولا العناية الإلهية التي أنقذت والدته جراء تعرضها لطلق ناري أصابها في أذنها عند قيام مقاومة بين السودانيين والمستعمر لما كان “المحجوب” موجوداً الآن، وتشير إلى أن “المحجوب” نفسه وثّق لهذه المعلومة في كتابه (الديمقراطية في الميزان) وقال: “لو أن الطلقة ذهبت إلى الأسفل قليلاً لما كان المحجوب أنجب”.
نبوءة الجد
تروي “سميرة” أن “المحجوب” عندما بلغ عمره السابعة وهو راعي أغنام، تنبأ له جده بالحكم وهو يقول إن هذا الفتى الذي ترونه سيحكم السودان وسيكون حاكماً صادقاً، وحقاً تحققت النبوءة وتأتي الانتخابات ويكون رئيساً للوزراء.
تزوج “المحجوب” من بت أسرة الشيخ صغيرون “السرة محمد عبد الحليم المساعد هاشم” أمير المهدية في (النيل الأبيض) وله من الأبناء “بهجة”، “سميرة”، “سلوى”، “سيد” و”سامي”.
استقالة “المحجوب” من السلك القضائي
تقول “سميرة” إن والدها بعد أن درس الهندسة عمل بها لعامين ثم درس القانون بـ(كلية غردون) ودخل إلى فضاء القضاء، وأثناء عمله تم نقله لعدد من مدن السودان “مدني” و”القضارف”، وفي عام (48) عقدت ندوة سياسية بـ”مدني” وكان محظوراً على القضاة أن يخطبوا في أية ندوة سياسية، وعندما أصر عليه محبوه حينها قال لهم “دعوني أقدم استقالتي أول شيء قبل المشاركة”، ومن ذاك الوقت تفرغ “المحجوب” للسياسة وقام بفتح مكتب محاماة بالخرطوم.
في الحلقة الثانية تروي “سميرة” مواقف مثيرة في حياة “المحجوب”، وتفاصيل عن ما كان يدور في أروقة المنزل العتيق، وعن نبوءات “المحجوب” السياسية، وسر التحول السياسي لـ”المحجوب” من أسرة ختمية إلى حزب (الأمة) غريم الاتحاديين، بجانب اللحظات الأخيرة قبل رحيل الوالد، وماذا قال عنه سكرتيره الشخصي العم “شرف الدين محمد أحمد” في رحلة مؤازرة لعشرات السنين.