التكفير بسبب الفتاوى .. الطريق إلى الفوضى الشاملة
آخرها هددت بقطف رأس “الترابي”
تقرير – صلاح حمد مضوي
الفتوى بإهدار الدم قديمة ابتدرها في التاريخ الإسلامي (الخوارج) الذين ظهروا كقوة فكرية وسياسية وعسكرية قاموا بقتل سيدنا “علي بن أبي طالب” بعد أن حاربوه، ثم بدأوا في تخريج أفكارهم حيث أضحت مدرسة فكرية مثلها ومثل (المرجئة) و(الشيعة). والخوارج كانوا يكفرون مرتكب (الزنا) والسارق وشارب الخمر، ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف التكفير كما لم يتوقف القتل على خلفية الاجتهادات السياسية أو الفكرية، وبالمقابل عملت أغلب الحكومات التي تعاقبت في التاريخ الإسلامي على استخدام الدين كسلاح تقصي به الخصوم عبر فتاوى تهدر دماء مطلقي الفتاوى أو من يخالفها الرأي، فيما يرى الكثيرون من المسلمين أن التكفير (مذلة أقدام ومضلة أفهام)، أضيعت بسببه أديان واستبيحت دماء وأزهقت أُنفس أبرياء.
تاريخ التكفير في السودان :
وفي السودان نشأ تيار (التكفير والهجرة) كتيار فكري وفقاً للباحث والصحفي الأستاذ “حسن عبد الحميد” في سبعينيات القرن الماضي بأفراد قليلي العدد، ولأنهم كانوا يكفرون المجتمع فإنهم كانوا يخرجون ويعيشون في مجمعات مغلقة خارج المدن والمجمعات السكنية، وقاموا أولاً بتكفير الحكام، ومنها مجموعات تمادت إلى تكفير المجتمع بأكمله، ثم أخذوا يتكتلون في إطار جماعات أخذت تناظر الجماعات الإسلامية مثل (الإخوان المسلمون) و(أنصار السنة)، وذلك في سنين السبعينيات والثمانينيات، وتولى مناظرتهم وقتها المرحوم “أحمد محجوب حاج نور”، حيث رجع بعضهم.
وكان نظام الرئيس “جعفر نميري” قام بإعدام رئيس الحزب الجمهوري المفكر “محمود محمد طه” في العام (1985) بتهمة الردة وخروجه عن الدين، حيث سعت تيارات إسلامية لذلك واحتفت بهذه النتيجة. في مقابل ذلك يرى الجمهوريون ومن بينهم الدكتور”محمد محمد الأمين” وهو أحد تلاميذ الأستاذ “محمود”، إن الدين في أصله ضد التكفير والوصاية وانتهاك حقوق الناس ولذلك لابد من الرجوع للقرآن المكي لمعرفة كيف أسس الحق الدستوري، معتبراً أن البيئة السودانية كانت بيئة مسيحية ثم صوفية تحترم ثقافة الحقوق الدستورية والمرأة، لأن الإسلام دخل إلى السودان عن طريق التصوف، والذي أخذ الدين من أصوله الحقيقية من سنة النبي وهي التربية النبوية ولذلك لم يكن التكفير موجوداً في البيئة السودانية.
وعقب انقلاب (1989) أدخل النظام (الإسلامي) بقيادة “الترابي” المادة (126) الخاصة بـ(الردة) والتي اعتبرتها أحزاب وجماعات بأنها مادة غير دستورية، بالقياس إلى الدستور الإسلامي الحقيقي أو وفقاً للدستور الانتقالي لعام (2005) الذي ينص على حرية التفكير والتعبير، أو حتى وفقاً للمواثيق الدولية حيث اعتبروها وضعت من أجل تصفية الخصوم مطالبين بإلغائها، من القانون السوداني لأنها (تتناقض مع حرية الفكر والتعبير وحقوق الإنسان)، مشيرين إلى أن دعاوى التكفير لا تمثل في حقيقتها مرجعية قطعية في الدين ولا ملزمة للدولة أو المجتمع.
وكأنما الزمان استدار ليخرج شبح الأستاذ “محمود محمد طه” ليطارد “الترابي”، حيث طالبت جماعات إسلامية أخرى بإهدار دمه وكفرت عراب الحركة الإسلامية في السودان، فيما يقول مراقبون إنه صاحب الدور الرئيسي في إعدام الأستاذ “محمود محمد طه” في( 18 /1/ 1985)، وإخفاء جثّته حيث ما يزال قبره مجهولاً حتى اليوم، في الوقت الذي توعد فيه أنصار “الترابي” خصومه من مكفريه بأن عليهم تحسس رؤوسهم.
رأس “الترابي “
وكان رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان “الشيخ الأمين الحاج” طالب الرئيس “عمر البشير” بتشكيل محكمة خاصة أسوة بالتي شكلها الرئيس الأسبق “جعفر نميري” لمحاكمة الأستاذ “محمود محمد طه”، معتبراً ما جاء به “الترابي” من فتاوى أشد خطورة مما كان يردده “محمود محمد طه”، ولم ينتظر حزب المؤتمر الشعبي كثيراً حتى انبرى محذراً بعض أئمة المساجد والجهات التي يمثلونها بأن (أيها الأئمة، إن كنتم إخواناً افتحوا عيونكم وزنوا كلامكم وتحسسوا رؤوسكم). وسبق أن شن حزب المؤتمر الشعبي هجوماً عنيفاً على مكفري زعيمه “الترابي”، ملمحاً إلى أن دروب التكفير وعرة وغير مأمونة العواقب. وقال القيادي بالحزب “أبو بكر عبد الرازق” إن من يكفرون “الترابي” أصحاب علل نفسية أو جهلاء أو باحثون عن شهرة أو قليلو الورع، مشيراً إلى أن التكفيريين سترتد عليهم سهامهم وسيخرج من أصلابهم من يكفرونهم، في إشارة لجماعة الهجرة والتكفير التي خرجت من أنصار السنة وكفرتها .
ودافع “عبد الرازق” عن فتاوى “الترابي”، مؤكداً على أن فتاوى الرجل لا تصدر إلا بعد تدقيق. وأضاف ( كل الآراء التي صدرت عن الترابي رضي هذا النكرة أم لا في إشارة إلى أحد المشايخ الذي أفتى بكفر الترابي، وقال إن هذه الفتاوى تصدر من أعلم علماء أهل الأرض اليوم، وصاحب أفضل تفسير للقرآن في تاريخ المسلمين، بعد أن حذر من ما أسماه موجة تطرف اتخذت من التكفير منهجاً لإقصاء الآخرين، داعياً إلى التحاور والمناقشة بالأدلة والبراهين بديلاً عن إشهار سيف التكفير.
غياب الأجوبة
وعادة ما يتم إصدار الفتوى كنتيجة لغياب جواب واضح وصريح يتفق عليه الغالبية في أمر من أمور الفقه الإسلامي يتعلق بموضوع شائك ذي أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية، ويطلق تسمية المفتي على الشخص الذي يقوم بإصدار الفتوى، ولا يوجد في الإسلام سلطة مركزية وحيدة لإصدار الفتوى وصدور فتوى معينة لا تعني بالضرورة أن جميع المسلمين سوف يطبقون ما جاء في الفتوى. ويرى بعض علماء المسلمين أن بعض الفتاوى تصدر من أشخاص لا يعتبرون أهلاً لإصدار الفتوى.
وبدأ اهتمام وسائل الإعلام الغربي بمصطلح الفتوى بعد حادثتين تمت تغطيتهما بصورة كثيفة، كانت الأولى فتوى “الخميني” عام (1989) بإهدار دم الروائي البريطاني من أصل هندي “سلمان رشدي” بعد نشره لرواية (آيات شيطانية) والتي اعتبرت من قبل الغالبية العظمى من المسلمين إساءة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما الفتوى الثانية فكانت ما اعتبره الإعلام الغربي فتوى من “أسامة بن لادن” في عام (1989)م بإعلان الحرب على الولايات المتحدة.
إشكالات
ويرى الباحث “حسن عبد الحميد” أن هنالك موانع للتكفير مثل (التأويل) أو أن يكون الشخص الذي كفر قاصداً أمراً آخر، أو أن يكون هذا الشخص جاهلاً، وفي حالة الدكتور “الترابي” فإن هذه الأخيرة لا تنطبق عليه، أو كذلك في حالة الخطأ. ويرى الباحث أن هنالك (ثوابت) في الإسلام يتفق عليها المسلمون جميعاً مثل (الإيمان بالغيب) أو أن ينكر الجنة والنار أو عذاب القبر أو علامات الساعة، وهذه أنكرها “الترابي”. ويضيف: في حال انتفت موانع التكفير وأصر صاحب الفتوى عليها فإنه في هذه الحالة يعتبر كافراً، ولكن الأمر المهم كما يرى هو أن التكفير لا يتم إلا أمام قاضٍ لأن ذلك يتعلق بحقوق أخرى للشخص الذي تم تكفيره مثل الميراث والزواج. وهنالك نموذج الدكتور “نصر حامد أبو زيد” الذي حكمت عليه محكمة مصرية بالقتل، لأنه كما يقول أصر على آرائه بمخالفة ثوابت الدين، أما “محمود محمد طه” فهو والحديث مازال لـ”عبد الحميد” تكلم بأسوأ من “نصر أبوزيد”، حيث قال إن هنالك (رسالة ثانية) للإسلام يريد تبليغها، وأن المجتمع المدني في القرن السابع الميلادي لا يتحمل كله، ومع رأيه هذا الذي يبدو أقرب للتيارات السلفية إلا أنه يرى أنه يجب التفريق بين الملابسات والقرائن السياسية التي تحيط بمطلق الفتاوى التكفيرية كما يقول وبين الأوضاع السياسية والفكرة ذاتها .
حقوق دستورية
ولا يتفق الدكتور”محمد محمد الأمين” مع ما يقول به “حسن عبد الحميد”، حيث يقول إن الأصل في الإسلام أن المسؤولية واحدة وبمستوى واحد على كل الناس حيث لا يوجد فرق بين رجل أو امرأة، مسلم أو مسلمة، فهنالك مسؤولية تامة أمام الله بمعنى المسؤولية الفردية فهذا يعتبر المبدأ العام، ولذلك فإن الإنسان حر فيما يقول وكما يشاء، بشرط أن لا يتعدى على حرية أحد لأن هذا الآخر لديه نفس الحق، وهذا الأمر أكده القرآن في حديثه عن حرية الإيمان والكفر. فهذه هي الحقوق الدستورية التي أصلها الدين – حق الحياة وحق الحرية وفي تشريع الوصاية الذي طبق في المدينة المنورة لا يحق قتل إنسان يشهد أن (لا إله إلا الله)، إلا إذا خرج عن دائرة الإسلام. ويضيف (الدين الإسلامي في أصله ضد التكفير والوصاية وانتهاك حقوق الناس، ولذلك على الناس أن يرجعوا للقرآن المكي لمعرفة كيف أسس الدين. وعن تكفير الدكتور “الترابي” يرى تلميذ الأستاذ “محمود محمد طه” أن “الترابي” قال رأياً، وبالتالي كان المفروض أن يتم الرد عليه بالحجة والمنطق، والرجوع إلى القرآن. واتهم من دمغ “الترابي” بالكفر بأنهم يريدون استعداء السلطة التي أدخلت قانون الردة التي لم تكن موجودة طوال تاريخ السودان، ولم تكن موجودة حتى في قانون (سبتمبر)، ولذلك فإن وجود هذه المادة أغرى (المكفرين) بدمغ كل من يخالفهم الرأي، مع أن حقيقة التدين تقول بأن كل من يشهد بأن لا إله إلا الله لا يمكن أن يدمغ بالكفر.
الدمار الشامل
وفي ذات السياق يرى عالم الأديان الدكتور “أمين محمد سعيد” إن إهدار الدم والحكم بالكفر لابد أن تتم تحت ضوابط شرعية، وأن تكون هنالك أدلة قوية دامغة، وأن يستتاب الذي يهدر دمه إن ثبت أنه يستحق ذلك، ويرى أنه لا يمكن أن يعالج وصم الناس بالكفر إلا بقبول الرأي والرأي الآخر، علماً بأن السودان وكدولة لها كيانات مثلاً لا يتم الصوم إلا بتحديد من مجلس الإفتاء وهكذا، وبالتالي فإنه لابد من الحوار والرأي والرأي الآخر، والإسلام دين مفتوح يبيح الحرية ما لم تمس أصلاً من أصول الدين والاعتقاد، ويضيف لدينا مجلس للإفتاء وهو مجلس مختص يمكن أن تصدر الفتاوى من خلاله، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها التخصص، فنحن في زمن صار التخصص الدقيق من أهم الأشياء، ولذلك والحديث مازال للدكتور “أمين” أناشد أن لا يصدر الفتوى أي إنسان، والمجلس هو الجهة الشرعية التي يمكن أخذ الفتاوى منها.
أخيراً يرى مراقبون أن الاختلافات الفكرية والمذهبية ربما تكون السبب الأساسي في فتاوى التكفير، كما أن التطرف أيضاً ينتج مثل هذه الفتاوى، ولن يحل هذه المعضلة طالما بقي الاختلاف، ولكن يتم التعويل على الحكماء والمفكرين والساسة في التوعية بمخاطر إهدار الدم، لأن دم المسلم كله حرام. وفي حالات البلدان كالسودان يمكن أن تعصف بالاستقرار لتسيل انهار الدم بسبب فتاوى التكفير، وهو الأمر الذي ربما يفتت استقرار البلاد ويهدر استقرارها إلى الأبد ويلحق تدميراً شاملاً بكل شيء.