(سائحون) و"عرمان" … ليس السلاح وحده من يجيد الكلام
تقرير – عقيل أحمد ناعم
ليس وحده ميدان المعركة الذي يتقابل فيه المتقاتلون ..أو هكذا تثبت الأيام، فمن كان يظن أن (السائحون) أشرس المقاتلين والمعادين للحركة الشعبية يمكن أن يجمعهم مع قادة الحركة غير ساحات الوغى، وليسوا أي قادة ولا أي قيادي، هو ذاته الذي تتعالى أصوات جموع المجاهدين في قمة حماسهم واستعدادهم للقتال مرددة اسمه (ياسر عرمان يا البشير ..ده شيوعي جبان)، نعم إنه الأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال “ياسر سعيد عرمان”، الذي التقاه وفد مجموعة (السائحون) بقيادة أمينها العام “فتح العليم عبد الحي”، في (محج سياسيي السودان) هذه الأيام، العاصمة الإثيوبية “أديس أبابا”، بحضور قيادات الحركة من جنوب كردفان والنيل الأزرق. وهو اللقاء الذي أحدث عراكاً كثيفاً بين عضوية السائحون، بين مؤيد ورافض لفكرة اللقاء مع “عرمان” من حيث المبدأ، وإن كانت خلاصة اللقاء وبعض بنوده التي شكلت اختراقاً في بعض القضايا المسكوت عنها قد خففت من وطأة الأصوات الرافضة.
وقد فعلها شيخٌ لهم من قبل
بعيداً عن المفاوضات الرسمية التي يجريها النظام الحاكم، فهذه ليست السابقة الأولى التي يجالس فيها بعض الإسلاميين الحركة الشعبية ويحاوروها، بل ويصلون معها لتفاهمات، فإن يكن (السائحون) قد تجرأوا وحاوروا الحركة الشعبية في شخص أشد رموزها عداءاً متبادلاً مع الإسلاميين، فقد فعلها شيخٌ لهم من قبل، فالساحة السياسية لاتزال تذكر القنبلة التي فجرها شيخ وعراب الحركة الإسلامية السودانية د.”حسن الترابي” في العام 2001م بتوقيع حزبه (المؤتمر الشعبي) مذكرة تفاهم مع حركة “قرنق” في “جنيف”، تلك المذكرة التي رمت بالترابي في غياهب سجون تلاميذه، وجردت على حزبه حملة حكومية جردته من دوره بل ومن شرعيته القانونية حينها، وامتدت آثارها إلى داخل الشعبي نفسه، فتسببت في خروج بعض كوادره مغاضبين ورافضين لما رأوه تنازلاً من حزبهم بـ(تفاهمه) مع عدوه اللدود، وعدوه مخالفة دينية، وهو ذات الأمر الذي واجهه لقاء سائحون مع “عرمان”، إذ أن كثيرين من عضوية سائحون انتقدوا الخطوة بشدة واعتبروا لقاء “عرمان” نقضاً للعهد مع (الشهداء) وخيانة لدمائهم، ولم يشفع لـ(شيخ فتح العليم) إلا اتفاقه مع الحركة بتوسط سائحون بينها والحكومة في ملف الأسرى. ولعل الظروف السياسية والأمنية بين الواقعتين متقاربة، ففي الحالين تزامنت تفاهمات الإسلاميين مع الحركة الشعبية مع استعار الحروب في أطراف البلاد، بجانب احتقان الساحة السياسية واشتداد حالة الاستقطاب بين مكوناتها، وإن كان الفرق أم جلوس سائحون الآن مع الحركة جاء في ظل انطلاق مفاوضات حكومية معها ومع حركات دارفور، بخلاف حالة التحاور الوطني بين النظام وبعض القوى السياسية في الداخل.
الأسرى ..إحدى مؤرقات (سائحون)
قبل أشهر ظهرت صور لبعض أسرى المجاهدين وأعضاء “سائحون” المأسورين في أعقاب معارك “أبوكرشولا” الأخيرة، والذين تم نعيهم شهداء وتلقى أهلهم فيهم العزاء، ومن حينها طفت قضية الأسرى إلى السطح واعتلت قمة اهتمامات (سائحون)، لذلك كان طبيعياً أن تشهد حيزاً مقدراً في لقاء وفد المجموعة مع الحركة، لدرجة أنها أضحت أهم مخرجات اللقاء بجانب اتفاق الطرفين على عقد جلسة موسعة بينهما في مقبل الأيام، لطرح أوراق ووثائق الطرفين للوصول إلى تفاهمات سياسية، إذ أن الطرفين (اتفقا على أن تمثل السائحون وسيطاً بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية لتبادل الأسرى). وقد لفت تعميم صحفي صادر عن الناطق الرسمي باسم سائحون “علي عثمان” إلى أن “عرمان” عقب إعلان موافقته على أن تلعب (سائحون) دور الوسيط بين الجبهة الثورية والحكومة في مايلي ملف الأسرى من الجانبين، أكد خلال اللقاء أن قضية الأسرى قضية إنسانية غير خاضعة للمزايدات السياسية، وأنهم في الثورية يترقبون رؤية السائحون حول القضية.
مقاتلون في مرمى النيران
مامن متفائل يظن أن “عرمان” يمكن أن يفوت فرصة أن يجلس أمامه ممثلوا أشد كوادر الإسلاميين عداوة له ولحركته، فقد نصب المقاتل القديم مدفعيته وقصف بها خصومه التاريخيين، ولعل بيان الناطق باسم السائحون كان شفافاً وشجاعاً وهو يروي هجوم “عرمان” المكثف على المجموعة وعلى مجمل الإسلاميين. فقد أورد البيان مايفيد بأن “عرمان” لايرى في (سائحون) تجربة ناضجة التخلق داخل رحم التمايز عن ماضي تجربة الإسلاميين في الحكم بما يجعلهم نموذجاً قابلاً للتعاطي معه بمعزل عن تاريخهم (الإنقاذي) الطويل والعميق، فقد اتهم “عرمان” (السائحون ) بأنهم لم يقدموا نقداً ومراجعات عميقة لتجربة الاسلاميين في الحكم، ومضى لما يشبه الاتهام بأنهم كانوا يقاتلون عدواً وهم جاهلون بحقيقته وكنهه، إذ أنه زعم بأن (السائحون) لم يطلعوا على رؤية الحركة الشعبية وتحديداً رؤية زعيمها “جون قرنق” للسودان الجديد. ولم يكتفِ “عرمان” بهذا بل عمد إلى تجريد (السائحون) من أي طرح واضح في ما يلي قضية دارفور. وكأن “عرمان” لم يرد أن يُدخل ضيوفه في مزيد من الحرج فاكتفى بنقد ديبلوماسي عبأه بتخوف الحركة الشعبية من ماسماها ( تجربة وقوف السائحون مع انقلاب ود إبراهيم)، في إشارة إلى التعاطف الواسع الذي لقيه العميد “محمد إبراهيم” ومجموعته إبان اتهامهم بتدبير محاولة لقلب نظام الحكم في الخرطوم. وكعادة الأمين العام لـ(سائحون) “فتح العليم عبد الحي” جاء رده هادئاً ومؤكداً أن (السائحون) قدموا نقداً موضوعياً ومراجعات عميقة لتجربة الإسلاميين في الحكم، تمثلت في وثيقة الإصلاح الشامل التي تتبناها المجموعة، معلناً الاعتراف بوحود خللٍ صاحب ولازم تجربة حكم الإسلاميين، ومثبتاً في ذات الوقت إحدى أدبيات المجموعة بأنها ضد الانقلابات العسكرية. وعلّل لوقوفهم مع “ود إبراهيم” بأنها من باب الحريات ومن باب حقه ومن معه في نيل محاكمة عادلة، وليس من باب مناصرة العمل العسكري، ولأن قضية دارفور أضحت الشاغل الأكبر لأهل السودان حرص “عبد الحي” على التأكيد بأن لـ(سائحون) مواقف واضحة حولها، وأنهم ومع الحل السياسي لأزمة دارفور ومع الاعتراف بالمظالم الخاصة لأهلها، بجانب وقوفهم مع الموروث السوداني في العفو والمصالحة. أما في ما يلي إطلاع المقاتلين القدامى على أفكار (أعدائهم التاريخيين) ومحاوريهم الحاليين، فقد أكد أمين (سائحون) اطلاعهم على المشروع السياسي للدكتور “جون قرنق” وعلى كل الوثائق والأوراق التي قدمتها الحركة الشعبية. ولكن لم يطلعنا ملخص اللقاء الذي أخرجه لنا الناطق باسم سائحون على مدى اقتناع “عرمان” ومن معه بهذه المرافعة التي قدمها بين يديهم الشيخ “فتح العليم”، ليظل السؤال هل يمكن أن ترى الحركة الشعبية بكل خلفياتها الآيديولوجية خيراً في من يخرج من رحم خصومهم التاريخيين، خاصة وأن أمين (السائحون) توسّل لإثبات تماهي مجموعته مع الأطروحات الديمقراطية التي تنتظم الساحة، بتأكيده أن (سائحون) ضد فرض الأطروحة الإسلامية بقوة السلاح، وأنها مع الخيار الديمقراطي حتى وإن لم يأتِ بالخيار الإسلامي؟ وهو تأكيد يجعل الأسئلة تتناسل من شاكلة هل أطلق “عرمان” ذات التأكيد والتطمين بأن الحركة الشعبية ومن يناصرها على استعداد بقبول الخيار الديمقراطي إن أتى بإسلاميين؟
“الترابي” حاضراً
وكيف لا يكون حاضراً، و”عرمان” يراه في وجوه تلاميذه الذين جاءوه محاورين، فعرمان صاحب العداوة التاريخية الراسخة تجاه الإسلاميين يحرص دائماً على توجيه سهامه تجاه (أعدائه) أفكاراً ومواقف ورموزاً، فبعد أن أسمع “عرمان” ضيوفه قولاً غليظاً في تجربتهم الإسلامية في الحكم وماجرته على الشعب من عناء، مضى نحو رمز الإسلاميين “الترابي” ولم يجعل هجومه عليه مقتصراً على شخصه، بل رمى عبره عصفور الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة وكان”الترابي” وحزبه من أول المستجيبين له، ليجعل من إعلان عدم ثقته في “الترابي” وفي الحكومة السودانية مبرراً لعدم ثقته في الحوار، باعتباره مجرد صفقة ثنائية بين الحكومة و”الترابي” الذي قال “عرمان”، إنه يفترض فيهم الغباء. وبدافع عدم الثقة هذا و(لأنهم ليسوا أغبياء) طالب “عرمان” بضرورة عقد جلسات لتحديد أجندة الحوار وتقديم الضمانات اللازمة خارج السودان، وبعدها فإنه لا يمانع في الانضمام للحوار بالداخل. وبالمقابل مضى وفد سائحون في مسار التطمينات بأنه يرفض مبدأ الحوار الثنائي، دون إغفال حضور خيار الثورة الشعبية كأحد خيارات التعامل مع المشهد السياسي في حال انسدت طرق الحوار، لكنه حذر من هذا الخيار بالنظر إلى أن السودان يعاني من بنية وأوضاع سياسية هشة يمكن أن يعصف العنف بوجوده ووحدته.
الوحدة بين التكتيكي والإستراتيجي
في بادرة قد تبدو غريبة من ذي دربة في عوالم المفاوضات، كشف “عرمان” لوفد (سائحون) ـ وقبل نهاية التفاوض مع الحكومة ـ أن مطالبته بالحكم الذاتي للمنطقتين لايعدو كونه موقفاً تفاوضياً، وبرر لذلك بأن الحكومة لاترغب في النظر الشامل لقضايا السودان وتعمل على فرض رؤيتها في تحديد أجندة التفاوض، مؤكداً أن خيارهم الإستراتيجي في الحركة هو وحدة السودان.