قصة حب لشعب يتوق لوقف الحرب الجنرال في الجبال
يوسف عبد المنان
أصبح اللواء “بكري حسن صالح” بعد توقيع اتفاق الخرطوم للسلام بين حكومة الإنقاذ – كما تعرف حينذاك – ومنشقين عن (الحركة الشعبية) من (جبال النوبة) أصبح رقماً في خارطة المنطقة، حيث أُسندت إليه رئاسة المجلس الانتقالي للسلام في جبال النوبة (جنوب كردفان)، والذي ضم في تشكيلته القادة السياسيين المنشقين عن الحركة الشعبية “محمد هارون كافي أبو راس” و”إسماعيل سعد الدين” و”رمضان شاويش”، ومن العسكريين “يونس دومي كالو” وآخرين، كان ذلك في عام 1997م، وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك التاريخ ما تزال المنطقة تتوجع وتتأوه من مخاض الحرب العسيرة، ولكن اللواء “بكري” يرتقى من وزير برئاسة الجمهورية إلى الرجل الثاني في الدولة والحزب، لكنه يحتفظ بخيط إنساني واجتماعي رفيع بإنسان (جبال النوبة)، حيث أسند إليه الرئيس ملف الرعاية السياسية لمنطقة جبال النوبة (جنوب كردفان) وكلا الأسمين صحيحين لورود نص في اتفاقية السلام 2005م، ودستور السودان الانتقالي يعرف المنطقة بأنها (جنوب كردفان) – (جبال النوبة)، ويعرف القائم على أمرها بـ(الحاكم) – (الوالي).
في بدايات العام الحالي ولد صندوق للسلام والتنمية ودرء آثار الحرب من صلب الحكومة المركزية، وأسند أمره للجنرال “بكري” الذي حينما كان في أيامه الأولى بـ(جنوب كردفان)، وبعد المفاصلة الشهيرة التي أصابت كاتم أسرار “البشير” وخليفته القادم في الحزب والدولة بداء (السكري) لجهده الذي بذله في الحيلولة دون انقسام التنظيم ومثابرة في الحفاظ على عظم ولحم الدولة من التشظي والاندثار.. في تلك الأيام تولى اللواء “بكري” نقل جلسات المجلس الانتقالي للسلام من الخرطوم، حيث القاعات الرطبة والطعام الوفير إلى مدينة “الدلنج” في عهد الوالي الراحل “مجذوب يوسف بابكر”. وكانت ثمرة انتقال المجلس الانتقالي إلى المدينة الثانية في الإقليم المضطرب اتخاذ اللواء “بكري” حينذاك قراراً وهو يخاطب لقاء جماهيرياً بتنفيذ طريق الأبيض الدبيبات الدلنج كادقلي.. بعد أن توقف الطريق عند محطة كاذقيل (45) كيلو متراً جنوب الأبيض، ولأن اللواء “بكري” من القيادات التي حينما تعد تفي بما وعدت وتدير مكتبه حينذاك كفاءات من القوات المسلحة تتابع وترصد وتنفذ توجيهات وزير شؤون رئاسة الجمهورية. أصبح الطريق واقعاً والحلم معاشاً والسلام قريباً واتفاقية السلام 1997م، انتفع بخيرها أهل المنطقة حتى العام الماضي، وذلك بالنص في بنودها على التميز الإيجابي لطلاب (جبال النوبة) الناجحين في امتحانات الشهادة السودانية، حيث تخرج آلاف الطلاب من المنطقة بفضل هذا التميز الإيجابي حتى جاءت وزيرة التعليم العالي الحالية “د. سمية أبو كشوة” لتلغي هذا الامتياز الذي كاد أن يصبح حقيقة.. وبذلك يعتبر المواطنون هناك في (جبال النوبة) أن اتفاقية الخرطوم للسلام 1997م أكثر جدوى وقيمة من اتفاقية 2005م، رغم أن الأولى لم تفلح في وقف الحرب، لكنها اهتمت بتنمية المنطقة أكثر من (اتفاقية نيفاشا) التي (هامت) في أودية الأماني السياسية والقضايا الخلافية، مما أودى بها لمستنقع الخلافات التي انتهت لحرب تدور اليوم في المنطقة ويتوق أهل المنطقة لأن تتوقف.
{ لماذا “كادقلي” غداً..
تنتظر الفريق “بكري حسن صالح” الذي ارتبط بالمنطقة أيما ارتباط وجدانياً، الرجل قريب من إنسان الجبال وسياسياً يعتبر اليوم المنفذ والمخطط والمسؤول الأول عن الجهاز التنفيذي.. وكلمته هي الفصل في قضايا عديدة كالتي تنتظره في “كادقلي” من مشروعات التنمية التي توقفت لشح المال ونضوب الدولار وخراب الديار.. حيث ينتظر سكان كادقلي أن تقول الخرطوم كلمتها في المستشفى الوقف ما زاد، وفي الميناء البري الذي جف قبل افتتاحه، ومباني الوزارات التي اتخذتها (حمير) المدينة ملاذاً لها من حر الصيف ومطر الخريف وبرد الشتاء، ولكن في مناخ قلة المال وشح الدعم المركزي وتوقف مشروعات التنمية نهضت في ولاية (جنوب كردفان) بعض المشروعات مثل كهرباء حي القوز بكادقلي والتي فاقت كلفتها الـ(5) مليارات جنيه من إيرادات الولاية الشحيحة و(مشروع محلية القوز) الذي أنفقت فيه الولاية أكثر من (30) مليار جنيه.. وتمدد كهرباء مروي من الدبيبات جنوباً حتى مدينة الدلنج بقرار سياسي إنصافاً لإنسان (جبال النوبة) الذي ظلمه التمرد وظلمته حكومات السودان بما في ذلك الإنقاذ، ولكنها اليوم تضع على فمه ابتسامة بعقد الدورة الثانية لصندوق دعم السلام الذي يضم نخباً وقيادات من أبناء الولاية، إضافة إلى وزراء اتحاديين وخبراء، وفكرة الصندوق التي لم تستوعبها الإدارة التنفيذية للصندوق بعد أن يصبح جسماً مرناً ما بين الحكومة والمجتمع وينهض بأعباء البحث عن مشروعات تنموية ودعومات خارجية بعيداً عن قيود الأجهزة الحكومية والمبادرة سياسياً لاختراق الجدار العازل بين أبناء الولاية من حاملي السلاح، حيث نخرت الحرب الأخيرة عميقاً في جسد المجتمع ولفظت الحرب أكثر من (93) ألفاً من سكان (جبال النوبة) و(النيل الأزرق) خارج الحدود وجعلت منهم لاجئين في دولة الجنوب طبقاً لإفادات على لسان منسق “الأمم المتحدة” المقيم في السودان “علي الزعتري”، ويمثل لجوء مواطنين سودانيين من (جبال النوبة) لدولة الجنوب جراء الحرب عاملاً سالباً جداً وتطوراً جديداً في مسارات الصراع، وما لجأ النوبة للجنوب إلا لبؤس المعالجات وسوء التدابير لإفرازات حرب 6/6/2011م، ولو تفهمت القيادة التنفيذية لصندوق دعم السلام بـ(جبال النوبة) المهام التي وضعت على عاتقها ونهضت بمسؤوليتها السياسية ولم تنتظر الدعم الحكومي الشحيح وبحث لها عن موارد مالية لأصبح للصندوق شأن، لكن حتى اليوم تنتظر العقلية التي تقود الصندوق أن تغدق عليها المالية بالمال وتخصص لقيادة الصندوق السيارات الفارهة والامتيازات، ويلهث بعض أعضاء مجلس الإدارة وراء المكافآت المالية عن كل اجتماع مجلس إدارة أو أن يصبحوا – أي أعضاء مجلس الإدارة – كالموظفين الحكوميين يصرفون رواتبهم الشهرية بلا أعباء حقيقية لتخذل الفكرة في صندوق للإعاشة على قرار مشروعات الإعاشة الأخرى في الدولة وحق العيش مكفول، ولكن بالطبع ليس على حساب قاعدة عريضة ممن طحنتهم الحرب وشردتهم المواجهات العسكرية، وحرمت الظروف القاهرة التي تعيشها المنطقة الآلاف من الأطفال التعليم ليصبحوا وقوداً للثورات ورصيداً لحركات التمرد التي تقتات على الجهل وتعيش على الأزمات.
{ كادقلي بين عهدين:
إذا كان مولانا “أحمد محمد هارون” متفق على ديناميكية أدائه وهمته، وقد نجح مولانا في الإبقاء على (جنوب كردفان) في يد الحكومة وتحت سيطرتها بعد نشوب حرب الكتمة، وقد سعى الرجل بجهد لا تنكره إلا عين أصابها الرمد أو فم أرهقه السقم، فإن خليفته المهندس “آدم الفكي محمد الطيب” قد رطب كبد المواطنين من جراحات الحرب ومسح براحتيه على الدموع التي تهطل من مقل النساء، وجفف الصراعات السياسية التي صبغت المنطقة وأصبحت جزءاً من سلوكها.. حيث نجحت إدارة “الفكي” في الانتخابات الداخلية لـ(حزب المؤتمر الوطني) من امتصاص آثار التنافس السياسي وخرجت ولايته موحدة.. بوعي المنافسين الآخرين من الخمسة المبشرين بالولاية.. ولكن بعد إلغاء نتائج انتخابات المؤتمر الوطني الداخلية، فإن التعيين ينتظر كل الولايات بما في ذلك (جنوب كردفان)، فهل تقبل المنطقة في ظل صراع واستقطاب عنيف حول من يكسب المواطنين المؤتمر الوطني أم الحركة الشعبية التي تحمل السلاح والتي يقوم خطابها أصلاً على إدعاءات بأن المركز يهيمن ويسيطر على المنطقة من خلال ولاة ومسؤولين يتم (فرضهم) عليها.. وفي حال اختيار المؤتمر الوطني لطريق التعيين والمجيء بوالٍ من خارج المنطقة ربما حقق ذلك نجاحات على صعيد التنمية بتوفير المال من المركز، ولكنه حتماً (سيهدي) الحركة الشعبية التي تحمل السلاح ما لم تحلم به وتذهب الحركة للمطالبة بتعيين والٍ من أبناء المنطقة لإدارة شأنها!!
وتحوم الشكوك حول قدرة المؤتمر الوطني احتمال ما يترتب على المجيء بوالٍ من خارج المنطقة لإدارتها في الوقت الذي تطالب الحركة الشعبية بتجاوز الحكم الفيدرالي الحالي والمطالبة بحكم ذاتي للمنطقة من أجل تحقيق قدر من الاستقلالية عن المركز لتعبر المنطقة عن نفسها ثقافياً وسياسياً، وترجح الاعتبارات السياسية خوفاً من المزالق وعواقب الإقبال سراعاً على تدابير لا يعرف الخسائر الناجمة عنها الإبقاء على خصوصية (جنوب كردفان) أو (جبال النوبة) على ما هي عليه اليوم، وكل ذلك قد لا يجيب عليه الفريق “بكري حسن صالح” في زيارته غداً لـ(جنوب كردفان)، ولكنها بعض من مشاغل الناس في كل السودان بعد أن أوصد المؤتمر العام للحزب الحاكم أبواب الانتخابات المباشرة للولاة.. والتوصية للجهاز السياسي بأن تصبح ولاية الرئيس (كاملة) غير منقوصة ليختار من يشاء من القيادات ليعبر بهم السنوات الخمس المقبلة.. والتجربة السابقة جاءت بولاة أقرب للمتمردين على المركز أو أبعد من الانسجام سياسياً معه حتى اضطر الرئيس لإعمال الطوارئ لإعفاء بعضهم واستخدام حزب المؤتمر الوطني عصاه ليحمل منسوبيه على تقديم استقالاتهم عن مناصب ليأتي من بعدهم ولاة معينون تعييناً.
{ محطات من الدلنج للقوز:
عندما كان الفريق “بكري حسن صالح” يقف بالقرب من الرئيس “البشير” الذي زار مدينة “الدلنج” في صيف 2011م، دعماً لحملة ترشيح مولانا “أحمد هارون” بدأ اللواء “إبراهيم نايل إيدام” الذي كان مرشحاً في انتخابات المجلس الوطني وخسر معركته أمام منافسه من الحركة الشعبية، ولكن اللواء “إيدام” ظل يلح ويطالب حد الاستجداء الحكومة والجنرال “بكري” بحل مشكلة أرقت سكان مدينة “الدلنج” وهي قضية الكهرباء والمولدات المتهالكة والوشيكة التي مدت منذ (35) عاماً، وظل الجنرال “بكري حسن صالح” يقول الفرج قريب دون إفصاح عن ما هو الفرج القادم، وفي ذلك الوقت كانت أسلاك كهرباء “مروي” قد اتجهت من “كوستي” غرباً نحو “تندلتي” و”أم روابة”، واليوم تصل كهرباء (سد مروي) إلى قلب الجبال وتضيء جبل السلطان عجبنا، وتصبح نساء أحياء “الرديف” و”قعر الحجر” و”أقوز” والمطار والطرق مثل “الخرطوم ثلاثة” و”الرياض” و”المنشية”!!
ووصول كهرباء “مروي” حتى “الدلنج” حدث يباهي به “بكري” ويفتخر، وفي (محلية القوز) التي تمثل ثقلاً سياسياً لحزب المؤتمر الوطني وملاذاً آمناً للنازحين جراء الحرب من عمق الجبال ومورداً اقتصادياً مهماً يقود الوزير “عمر شيخ الدين” حملة تطعيم مليون رأس من الثروة الحيوانية.. وأصبح سوق حاجز الشيخ “القناوي” منطقة للمخيم البيطري الذي يكسب العافية لقطيع صادر الثروة الحيوانية.. ويمثل الوزير “عمر شيخ الدين” إضافة حقيقية لتيار الحركة الشعبية للسلام، وقد أثبت كفاءته وحرصه على أداء مهامه.. ويفتتح السيد النائب الأول بناية (محلية القوز) التي أصبحت بفضل المعتمد “أبو بكر خليفة” الأولى ولائياً، وقد أنفقت حكومة “الفكي” في مشروعات التعليم وحدها ما يربو عن (2) مليار جنيه بـ(محلية القوز)، والاهتمام بالتعليم جعل حصاد العام الماضي يرتفع من نسبة نجاح (56%) إلى (85%) لمرحلة الأساس في ولاية تعاني من الحرب وعدم الاستقرار.