تحقيقات

ظاهرة (بيع الكسر) … مشكلة تحتاج لحلول جذرية

أفرزت آثاراً سالبة تضررت منها أسر كثيرة
(سجن الهدى) يحتضن حوالي (2700) معسراً بسبب الشيكات المرتدة
ركود الأسواق وانخفاض القوى الشرائية وارتفاع الدولار عوامل أدت لزيادة الظاهرة
البنوك تخصص أكثر من (90%) من تمويلها لكبار التجار وتنسى صغار المواطنين،
مطالب بمراجعة مادة (يبقى إلى حين السداد) الواردة في القانون الجنائي 
(الزكاة) و(الضرائب) و(الجمارك) شددت على ضرورة الإبقاء على المادة حفظاً للحقوق
الغرفة التجارية تدفع بخطة لدراسة الحالة ومعالجتها بشكل نهائي
تحقيق – أسماء علي
بعد وفاة والده أدخله عمه إلى السوق ليساعد أمه وإخوته الصغار، فمعاش والده لا يغطي احتياجات الأسرة، وبعد أشهر قلائل تعلم كيف تدار العمليات التجارية كبيرها وصغيرها ما دفع بعمه أن يوكل إليه كثيراً من المهام التي نجح فيها رغم خبرته القليلة، وبمرور الوقت اطمأن العم لابن أخيه وتركه يدير دفة الأعمال وحده، وبالفعل فقد استطاع تحقيق أرباح عالية. وبعد استقرار أحوال أسرته فكر في إكمال نصف دينه الذي كان بداية النهاية عندما صرف فيه مبالغ خرافية ما اضطره أن يمد يده إلى خزينة عمه التي أمنه عليها على أن يرد ما أخذه بعد الزواج دون علم عمه، وأول ما خطر له هو فكرة بيع الكسر وأخذ بضاعة بملايين الجنيهات لكنها لم تحقق الربح المطلوب، فأخذ أخرى وتكررت ذات العملية والخسارة، وأخيراً واجهه أصحاب البضاعة بالشيكات التي تراكمت وبلغت المليارات، ولم يك يمتلك منفذاً أو أي عقار يحل ورطته ويسدد ولو جزءاً من مديونياته، ولم يجد أي منفذ يخرج به والباب الوحيد الذي أمامه هو باب الزنزانة.
ورش ومؤتمرات
كثرت في الآونة الأخيرة قضايا المعسرين الذين تكدست بهم السجون على خلفية القضية التي يطلق عليها (يبقى إلى حين السداد تحت المادة 179) الأمر الذي دفع بالجهات ذات الصلة إلى إقامة عدد من الورش والمؤتمرات لمناقشة القضية المتفاقمة، وقد بلغ عدد المعسرين بـ(سجن الهدى) فقط حوالى (2700) من الرجال الذين يقبعون به بسبب الشيك المرتد بحسب تقرير مطلع هذا العام، هذا بخلاف وحدات السجون الأخرى بالسودان البالغة (158) وحدة، (المجهر) تطرقت للقضية بالطرق على أبواب بعض المعنيين وخرجت بالمحصلة التالية:
ارتفاع نسبة البيع بالكسر
الأمين العام للغرفة التجارية بالسودان “حاج الطيب” قال في تصريحات فائتة إن نسبة (البيع بالكسر) ارتفعت وسط التجار وأدت إلى تكبدهم خسائر فادحة قادت كثيرين منهم إلى السجون بعد أحكام صدرت بحقهم، مضيفاً أن الغرفة لا تملك إحصائية رسمية بالتجار المتعسرين الموجودين في السجون، لكن المؤكد أن أعدادهم ارتفعت جراء الوضع الاقتصادي الراهن.
ولمعرفة تداعيات المشكلة والحلول التي قدمها إتحاد الغرفة التجارية لمساعدة هؤلاء التجار الذين امتلأت بهم السجون، جلست (المجهر) إلى نائب رئيس الغرفة التجارية “سمير أحمد قاسم” وقد عزى أسباب الكسر إلى ركود الأسواق وإنخفاض القوى الشرائية مقابل ارتفاع الدولار، وأضاف أن هذه الأيام موسم زراعي وعادة ما ترتفع فيه نسبة الكساد ما يدخل التجار في إشكالات مالية. ويرى “سمير” أن هذه المشكلة ليست بالجديدة أو الخطيرة ويمكن معالجتها، وهم الآن بصدد دراسة للوصول إلى حلول نهائية، وأن خطة عملهم تنصب في التعاون مع الغرفة الولائية للتوسط لهؤلاء التجار ومساعدتهم. وأكد “سمير” عدم تلغيهم أية شكاوى من التجار حتى الآن.
الكسر اصطلاحاً
عرف رئيس اللجنة الاقتصادية لجمعية حماية المستهلك دكتور “حسين القوني” الكسر بأنه اصطلاحاً حسبما هو معروف في السودان شراء سلعة مقابل شيك لأجل، ومحرر الشيك يبيعها بسعر أقل وبذا تحدث الخسارة، وفي الغالب يكون هذا الإجراء لحل مشاكل مالية حل أجلها خيفة دخول السجن، ولكن في كثير من المرات يعجز التاجر عن تسديد الشيك ويرجع إلى صاحب البضاعة فيزيد له السعر بشيك جديد، وهذا حل وقتي ولو تكرر مهما كانت الأرباح تكون أقل من فرق السعر، وغالباً يحدث عجز مالي ويصبح مصيره السجن وبعضهم يضر بأهله كأن يبيع بيته.
وأضاف “القوني” أن المسألة تحتاج إلى دراسة متعمقة من جهات الاختصاص لدراسة أحوال الأشخاص وما إذا كانوا محتاجين أم محتالين، لأن معظم هؤلاء يديرون تجارتهم من داخل السجن، فلا بد من إقامة مؤتمر قومي يضم الدولة والغرف التجارية والتجار والقضاء لتجنب هذه المشكلة التي أفقدت العمل التجاري أهم جوانبه وهي الثقة.
أنواع الربا
من جانبه قال عضو هيئة علماء السودان “محمد هاشم الحكيم”: أحل الله البيع وحرم الربا والغرض من البيع المصلحة، ووعد المتعاملين بالربا بحرب من الله، وقال “الحكيم ” إن الربا نوعان ربا (الفضل) وفيه يعطى المال كدين ويسترد أكثر،  والآخر ربا (النسيئة) وهو تأجيل سداد الدين متى حلت وبزيادة. أما بيع (الكسر) يكون لشخص محتاج يشتري بضاعة بسعر أغلى ويسمى بالتورّق لأن الإنسان يشتري بضاعة وهو يقصد مال التاجر، وهذه المبايعة مشروعة بشرط أن لا يكون الكسر ببيع البضاعة للتاجر صاحبها، فهذا تحايل على الربا، والشرط الثاني أن لا يقصد بالكسر الإضرار بالتاجر والسيطرة على السوق وذلك ببيع البضاعة بأقل من ثمنها.
أما الشرط الأخير بحسب “الحكيم” أن يكون هذا النوع من التعامل من عاداته، وقد ظهر في بعض المدن بيع (الكتفلّي) وفيه يكون المزارع محتاجاً فيستغله التجار ويقول له التاجر أنا أبيعك هذه الذرة بـ(800) واشتريها منك وقت الحصاد بـ(600). ونذكر التجار بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع المضطر كما قال عليه الصلاة والسلام (دخل رجل الجنة لأنه تجاوز عن معسرهم وترفق بمؤثرهم)، ونذّكر المواطنين بأهمية عبادة الله بالدين قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً)، وأضاف “الحكيم”: لكم استغرب من قرارت البنوك التي تخصص أكثر من بضع وتسعين من تمويلها لكبار التجار وتنسى صغار المواطنين، ونطالب المواطنين بعدم حل المشاكل بمشاكل أخرى، فالدين مشكلة والكسر مشكلة أكبر منه.
قانون السجون لسنة 2010م
وفي تصريحات فائتة كان مدير مدينة (الهدى الإصلاحية) اللواء “عبد اللطيف سر الختم وديدي” قد كشف عن وجود أكثر من (2700) مدان بالشيكات المرتدة بـ(مدينة الهدى)، مشيراً إلى الاهتمام بدراسة الحالة الاجتماعية لحالات (يبقى إلى حين السداد) وإعمال قاعدة النظر إلى ميسرة بالتعاون مع الهيئة القضائية والمحسنين بالبلاد. وأكد “وديدي” في واحدة من منتديات جمعية حماية المستهلك حول (يبقى إلى حين السداد) الواردة في القانون الجنائي وهم الذين يحررون شيكات دون رصيد، مشيراً إلى تطبيق قانون السجون لسنة 2010م على محرري الشيكات المرتدة والذي أقر التواصل الأسري للمسجونين، وعمل على إزالة الوصمة المجتمعية لهم.
وطالب مشاركون في ملتقى الجمعية بمراجعة تشريع مادة (يبقى إلى حين السداد) الواردة في القانون الجنائي والقاضية ببقاء أصحاب الشيكات المرتدة بالسجن إلى حين الوفاء بالمبالغ المستحقة، مشيرين إلى إفرازها لآثار اجتماعية سالبة على رأسها تشريد الأسر، بالإضافة إلى عدم اتساقها مع النهج الإسلامي.
تعديل المادة (179)
وحسب مسؤولي (سجن الهدى)، شمالي أم درمان، فإن أكثر من (2700) سجين من الرجال يقبعون في السجن بعقوبة الشيك المرتد، خلاف وحدات السجون الأخرى بالسودان البالغة (158) وحدة.
وورد أيضاً أن وزارة العدل السودانية قدمت دراسة لتعديل المادة (179) من القانون الجنائي (يبقى إلى حين السداد) وإمكانية تحويل قضية الشيك المرتد من قضية جنائية إلى مدنية.
ورغم تعدد المطالبات بإلغاء هذه المادة، لكن جهات مثل (ديوان الضرائب) و(الجمارك) و(ديوان الزكاة) و(صناديق الضمان الاجتماعي) أكدت ضرورة الإبقاء على المادة لحفظ الحقوق وحتى لا يفقد الشيك هيبته ويكون عرضة للمحتالين.
 بيع الكسر في القانون

يقول الأستاذ المحامي “تبن عبد الله سليمان” في إفادة له إنه وفقاً للمادة (179) من القانون الجنائي لسنة 1991م يعد مرتكب جريمة إعطاء صك مردود من يعطي شخصاً صكاً مصرفياً وفاء لالتزام أو بمقابل ويرده المسحوب عليه لأي من هذه الدواعي، وهي عدم وجود حساب للساحب لدى المسحوب عليه وقت تقديم الصك، وعدم وجود رصيد للساحب كافٍ أو قابل للسحب مع علمه بذلك، وقف الساحب صرف قيمة الصك بأمر منه أو ممن ينوب عنه دون سبب معقول، تحرير الساحب للصك بصورة غير معقولة مع علمه بذلك.
حجم العقوبة
أما حجم العقوبة فقال عنها “تبن” إن من يرتكب جريمة اعطاء صك مردود يعاقب بالغرامة أو السجن مدة لا تجاوز خمس سنوات أو بالعقوبتين معاً، ومن يظهر صكاً مصرفياً ويسلمه لغيره ويرد بالوجه الوارد في البند (1) وكان يعلم بما يدعو لرده يعاقب بالغرامة أو السجن مدة لا تجاوز ثلاث سنوات أو بالعقوبتين معاً، من يرتكب للمرة الثالثة جريمة إعطاء صك مردود أو تظهيره، يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سبع سنوات والغرامة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية