رأي

"مصطفى سعيد".. هل هو مثال على فشل مشروع الاندماج في المجتمع الأوروبي؟!!

د. هجو علي هجو

إن الإحساس بالهُويَّة، أو الوعي بالذات، وبالتالي الوعي بتصور الإنسان عن نفسه، وعلاقة ذلك بمفهوم الوعي بوجود الآخر المغاير، ومعرفة السمات المميزة، والحدود الفاصلة بين الأنا والآخر، يطرح بدوره وبصورة مباشرة مسألة آليات التشكل الداخلي للهوية نفسها التي هي من أقدم وأرسخ وأوضح حقائق الوجود البشري. ولعل من أكثر الإفرازات الطبيعية الناجمة عن هذه الحقيقة الوجودية والاجتماعية سلبيةً، وأقصاها تطرفاً، هي خصيصة العنصرية التي فشلت كل العقائد والأديان والمذاهب الأيديولوجية والفكرية عملياً فيما يبدو في محوها بالكلية عن نفوس البشر. وموضوع المقابلة بين الأنا والآخر سلباً أو إيجاباً، بغضاً وتباعداً، أو محبةً وتواصلاً، هو موضوع قديم قدم الوجود البشري نفسه، وقد تمت معالجته من عدة زوايا: فلسفية، سياسية واجتماعية. فـ”مصطفى سعيد” في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) قال عن نفسه إنه مثل “عطيل”، عربي- أفريقي. هذا من جانب، بينما تمثله من الجانب الآخر، شخصية “جين مورس” الفتاة الإنجليزية المعتدة بشخصيتها، ونبل محتدها، وسموق أرومتها، والحضارة التي تنتمي إليها تفوقاً جبليّاً مركوزاً في أصل عنصرها، في مقابل شخصية رجل سوداني لا يتطرق إليها أدنى شك بأنه هو، وكل ما يمثله من هوية مركبة تجتمع فيها العناصر العربية والإفريقية والإسلامية، دونها ودون هويتها مرتبة، مما جعل الصراع المأساوي بينهما حتمياً، وانتهى إلى ما انتهى إليه من قتلها، وحبسه هو في السجن في لندن لمدة سبع سنوات عقاباً له على تلك الجريمة. إن هُويَّة “مصطفى سعيد” المركبة بوصفه سودانياً، جعلت المناجزة الحضارية بينه وبين الآخر الأوروبي مركبة ومعقدة هي الأخرى. ذلك الصراع الذي عبر عنه “النور عثمان أبكر” تجاه حيرة الأوروبيين في تصنيفه أثناء الرحلة التي جمعته مع الشاعر “محمد المكي إبراهيم” إلى  ألمانيا  في أوائل الستينيات من القرن الماضي، ولخص “النور” تلك الحيرة في هذه العبارة الفلسفية البليغة: (إنه – يعني الأوروبي – يرفض هويتي الأفريقية حين أفكر، ويرفض هويتي العربية حين أكون). إن الأزمة الحقيقة للسودان كبلد وككيان مع الغرب في شتى العصور كما يرى الدكتور “خالد محمد فرح” هي (أنه قد مثل تجسيداً لما يمكن أن نسميه: تمازج أو التقاء الهويات الخاسرة في ميزان العالم المعاصر، ونعني بذلك الهُويَّات العربية، والإسلامية، والأفريقية بمعناها العرقي لا الجغرافي. ولا شك في أنّ هذه الهويات جميعها، هويات ظلت تقابل من قبل الآخر الأوروبي بمشاعر سلبية باستمرار على أقل تقدير، إن لم تكن تقابل بالعداء والاحتقار). لقد جسد “مصطفى سعيد” الاختلاف بين عالمين ظلا يصطرعان فيما بينهما بشتى الوسائل لقرون طويلة إلى عهد يتجاوز حتى حروب المسلمين والروم البيزنطيين في أوائل عهد الإسلام، مروراً بالحروب الصليبية، بل تعود به على لسان “مصطفى سعيد” إلى أيام حروب الرومان و(القرطاجنيين) والذين يسميهم الأوربيون بـ(الفينيقيين)، إنما كانوا قوماً عرباً عاربة. أما “جين مورس”، فقد عمدت في نوبة من نوبات غضبها وغيظها المتكررة على زوجها “مصطفى سعيد”، عمدت إلى أن تلقي في موقد مدفأة بيتهما في لندن بعض التحف الفنية والمقتنيات الخاصة بـ”مصطفى سعيد”، التي تحيل بصفة خاصة إلى التراث العربي والإسلامي عنوان هويته، وموضع الاختلاف والتضاد مع هويتها هي. وتلك التحف التي جعلتها تلك المرأة الإنجليزية طعاماً للنيران عبارة عن: سجادة للصلاة، ومخطوط عربي قديم. فهل يطرح “الطيب صالح” مشكلة الهوية؟ أي مشكلة الكيان الحضاري الذي ننتمي إليه بالعالم الخارجي وخصوصاً مع أوروبا، فضلاً عن مشكلة نظرتنا لأنفسنا. إن مفهوم “الطيب صالح” تجاه الهوية مرن، فالهوية عنده ليست شيئاً جامداً. لذلك نجح مجتمع قرية (ود حامد) بكياناته الإثنية والاجتماعية المتباينة في صهر الهويات واختفاء الحواجز: أهل البلد من القرويين المستقرين، وعرب القوز وهم البدو الرحل على شريط النيل، وفئة الرقيق المحررين، وجواري الواحة، والحلب- أي الغجر. وقد رأينا أن جميع هؤلاء فرحوا وغنوا ورقصوا وسكروا وطربوا ومدحوا النبي “صلى الله عليه وسلم”.. لحظة إنسانية رحبة ومتسامحة، مثلت بكل تأكيد المغزى الأخلاقي لرواية (عرس الزين) التي وصفها الناقد العربي الراحل “علي الراعي” بأنها (زغرودة طويلة للحياة).
هل فشل “مصطفى سعيد” في الاندماج في المجتمع الإنجليزي من خشيته فقدان هويته العربية والإسلامية تلك الخشية التي يراها الدكتور “حامد فضل الله” في كتابه (أحاديث برلينية) حول قضايا أوروبا والإسلام وفي الأدب والفكر، بأنها السبب الوحيد الذي يقف في سبيل اندماج العرب والمسلمين في المجتمع الألماني؟ أم أن سبب عدم اندماج “مصطفى سعيد” يرجع إلى أسباب أخرى؟! وحري بنا أن نذكر أن الراوي في (موسم الهجرة إلى الشمال) والذي يمثل في نظر الكثيرين من النقاد والدارسين، لسان حال الكاتب “الطيب صالح” نفسه، قد قدم صورة واقعية وإنسانية إلى حد كبير للمجتمع الأوروبي عامة، والبريطاني على وجه التحديد، وذلك حين يقول: (مثلنا تماماً يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب، يخافون المجهول وينشدون الحب ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد، فيهم أقوياء وبينهم مستضعفون بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق وبعضتهم حرمته الحياة….). وما زال السؤال قائماً: لماذا فشل “مصطفى سعيد” في الاندماج في المجتمع الإنجليزي؟؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية