(جادين).. حكاية قرية (مسح) السيل كل معالمها
جادين- محمد إبراهيم الحاج
لم يكن لقرية (جادين أبو ضعينة) التي تقع غربي أم درمان من أسباب الحياة سوى زفرات من (زفير) ملوث و(شهيق) يخرج تلقائياً لينبئ أن ثمة (بشراً) يقطنون تلك الفجاج التي نشر فيها الفقر رداءه الواسع.. وتسللت عناصره إلى عروقهم فتوطن بها واستقر به المقام فأحال ملامحهم إلى وجوه متغضنة كادت أن تزوي لفرط ما ألم بها من فقر ومسغبة وحاجة.
ازمتان خانقتان تحالفتا على أهالي قرية (جادين أبو ضعينة) التي كانت ترفل في عز أهلها، فأجاءها السيل ذات صباح قاتم النسمات وجرف في طريقه كل أسباب الحياة ولم يترك سوى (أطلال) قرية فاقدة لكل مقومات البقاء.. فقد تهدمت المنازل وفقدت معظم الأسر مأواها وتناثرت الأثاثات على الشارع بعد أن (مسح بها سيل ثالث أيام عيد الفطر المبارك الأرض) وباتت عبارة عن (طين) وقع على (الطين) شهيداً.. يختبئ تحت ركامه كل ما كان يبعث فيها الحياة من راديوهات.. سراير.. كتب.. كراسات الطلاب.. مسجلات.. تلفزيونات.. ثلاجات.. خلاطات.. مراوح.. ليصبح أهلها ذات صبح ليجدوا أنفسهم يقلبون أيديهم وهي خاوية على عروشها، كأنها (عصف مأكول).
(المجهر) مضت أمس الأول إلى قرية (جادين أبو ضعينة) مع شباب مبادرة (مروءة) التي انطلقت من النادي العائلي بالخرطوم والتي أطلقها عدد من الإعلاميين والفنانين والشباب وأبناء منطقة الخرطوم(2) إلى القرية في أولى قوافل المبادرة، الذين (تحزموا) لمتابعة مسح بعض الأحزان التي أورثها طوفان مياه السيول والأمطار الأخيرة، وتخفيف معاناة مصابي (الخريف الماطر)، و(تحزموا) لـ(كنس) بعض ملامح الفقر التي رأوها بأم أعينهم في تلك المناطق التي التفت لها الناس بعد المعاناة الأخيرة.. عشنا مع أبناء القرية تفاصيل أليمة نعمل جهداً في أن ننقلها كما رأيناها دون مساحيق.
{ صورة أولى.. عيون أطفال (ضاقت الهزيمة)
عند تخوم القرية كان “إسحق حسن” منهمكاً في بناء (راكوبة) صغيرة لأطفاله الصغار الذين كانوا يرمون بأنظارهم تجاه ساعد والدهم والشمس ترمي بطرفها على وجوههم الكالحة وهم يحدقون في العدم.. كان الأثاث مكوماً أمامهم بعد أن عصفت السيول بمنزلهم ولم يبق منه سوى ركام و(طين) وكثير من الحصير والزنك وبقايا أدوات منزلية.. كان يساعد “إسحق” وقتها شاب صغير ألقينا عليه التحية فرد ببشاشة ظاهرة رغم صرامة ملامحه التي فرضتها عليه الظروف القاسية التي ألمت به في الأيام الماضية، عرفناه بأنفسنا وسألناه- رغم أن الحال يغني عن السؤال- ولكن صرامة ملامحه تنزلت على كلماته فقال: (كل البيت اتكسر وما باقي منو أي حاجة وزي ما إنتو شايفين بعيونكم وهسع الحمد لله بحاول أعمل راكوبة عشان ألم فيها أولادي الخمسة ديل..) وأضاف “إسحق”: (ما عندنا أي مشمعات أو خيام أو أي حاجة نتلم فيها.. كأنو نحن ما سودانيين.. رغم الكارثة دي ما جانا هنا أي زول غير ناس الهلال الأحمر. وأنا أتمنى إنو الناس تنظر إلى ظروفنا.. لأنو نحن في حالة سيئة جداً والسحابة دي شايلة واحتمال تجي الليلة وما عارفين ح نعمل شنو.. والحمد لله).
{ صورة ثانية.. شوية دقيق ما بيسوي شيء
في داخل أحد البيوت التي انهارت بشكل كامل جراء السيول والأمطار الأخيرة، ولم يبق فيه شيء منتصب سوى (راكوبة) صغيرة تم صنعها على عجل لا تتعدى مساحتها (2×2) متر مربع، جلست أسرة بكاملها تتكون من أربع فتيات وأمهن الفاقدة للبصر، كانت اثنتان منهن يتقاسمن (عنقريب صغير) لم يتسع لهن فيما افترشت البقية الأرض وينفضن عن أجسادهن الذباب والحشرات الصغيرة التي ربما أغراها ضعف أولئك النسوة فلم تحفل بأي مصدات، فتبارت في الهجوم المدبب عليهن.. كان الجميع يعلم أن (شوية دقيق وسكر وبسكويت وخبز) وغيرها من مستلزمات الحقيبة لا يمكنها أن تقيم أود تلك الأسرة التي تحالف عليها الفقر ونكبة تحطيم منزلها بسبب السيول والأمطار.. وكانت أعين الشباب الذين كنت أرافقهم تنطق بأن الحال أسوأ مما يقال.. وأن الدعم العاجل والإغاثة سريعة لانتشالهن من سفح الحياة الذي قد يقضى على بقية أنفاسهن ينبغي أن يكون هو الهمّ الأول والأخير.
{ صورة رابعة.. كريات الصبر
رغم أن القرية بأكملها كانت تعاني من تدهور مريع في البيئة وصعوبة الحصول على مياه الشرب النقية وشح بائن في المواد الغذائية بالإضافة إلى هجوم الذباب نهاراً و(النمتي) و(الناموس) و(البعوض) ليلاً.. ورغم أن التقديرات كانت تكشف أن كل أهالي المنطقة بحاجة إلى إغاثة فورية، إلا أن تركيز الشباب كان يتعدى الفقراء إلى من هم أشد فقراً.. وكانوا يقصدون المنازل التي بها أطفال أكثر من غيرها.. وفي أحد البيوت التي دخلناها وجدنا امرأة في نهايات العقد الرابع من عمرها تضم في حنو بالغ ثلاثة من أطفالها الذين بدأت تتسلل إلى سيماهم نذر سوء تغذية قد يزوي مياه الحياة.. لم تشتك.. ولم تتكلم.. ولم تنطق بحرف واحد.. ولكن ما كان ينطق فقط حالها وحال أطفالها.. ما كان يتحدث هو البؤس ونظرات الأطفال التي كانت تذيب قلوب أقسى الناس تحجراً.. فارقناها وفي البال ألف سؤال.. (الناس ديل ح ينوموا كيف؟؟.. وح يغتسلوا بي شنو غير الصبر يا ربنا؟؟ ولما يصحوا ح يأكلوا شنو..؟؟ وح يتعلموا كيف..؟؟).. وقتها ارتج العقل وامتنع قسراً وحسرة عن الإجابة كما ارتجت معه كريات الصبر البيضاء.
{ كرم سوداني رغم الأزمة
السيدة “الشام محمد الحسن” التي أصرت على إكرام الجميع بـ(كباية شاي) صنعتها ابنتها الجامعية، لم يبق السيل من منزلها سوى بعض الأغنام والحطب المتناثر هنا وهناك وكثير جداً من الصبر والتجلد على المصيبة التي داهمتهم ذات صباح، وبدأت في سرد معاناتها لـ(المجهر) قائلة: (كل أولادي موزعين في المدارس والجامعات وما عارفين حتى الآن ح نعمل شنو.. لأنو السيل لما جانا شال معاهو كل شيء وما خلى لينا غير أرواحنا)، وأضافت: (الحمد لله على كل حال وعلى نعمة السلامة.. بس كل ممتلكاتنا وحاجاتنا الفي الدنيا شالها السيل).. و ترقرقت دمعات كبرياء وتجلد ببطء على خدها ربما بسبب ما لاقته خلال محنة السيول أو شفقة على مصير أبنائها الذين أخذ السيل في طريقه أدواتهم المدرسية وشهاداتهم وملابسهم، ولكنها بدت راضية وقانعة جداً رغم مصابها كشأن جميع أهالي القرية، أو أن إحساسها بأن الدنيا قد أخذت بيسارها قبل الأوان كل ما منحته إياها بيمينها، ولكن كرمها السوداني كان أكبر من مصابها فاستدعته ساعة وجل و(حلفت) بأغلظ الأيمان بأن تكرم وفادة كل الوفد، فجلس الجميع على الراكوبة الصغيرة التي لا تتسع سوى لـ(عنقريبين)، ولزم بعضنا (الواطة) مفترشاً رمالها التي كانت تنز وقتها بسبب المياه الكثيفة التي أصابتها.
{ أخيراً
ربما كانت محنة السيول والأمطار الأخيرة هي ما لفتت الأنظار إلى الواقع الذي يفتقر إلى أبسط أسباب الحياة.. وربما هي ما كشفت سوء الحال الذي يسم أولئك القاطنين على هامش الحياة.. وربما هي ما جعلت الوجدان السوداني يتحفز ويهب من سباته.. لكنها كشفت أيضاً أن هناك في أطراف المدينة كثيراً من (البشر) الذين قست عليهم الحياة ورمت عليهم أثقالها.. هناك تعتقد لأول وهلة أن الحياة متوقفة تماماً.. وأن أسبابها معدومة.. هناك يطفر إلى ذهنك ألف سؤال.. وللأسف لا تقوى على الإجابة عن أسهلها.
وغير بعيد من الخرطوم العاصمة التي يرفل بعض أحيائها في المخمل المعيشي.. يوجد أناس يخشون أن تشرق عليهم الشمس حتى لا يروا ما رأوه أثناء النهار.. هناك قضت الطبيعة والفقر على معالم الحياة.. أدركوهم قبل أن نرى مستقبل أولئك الأطفال يسحل بتجاهلنا.. أدركوهم قبل أن نفيق ذات صباح لنرى أن كثيراً من السودانيين قد تحولوا ليلاً إلى بقايا وحطام، ولن تجدي وقتها محاولات الإسعاف.