الشيخ "الكاروري"..!!
أتتبع باستمرار وملاحقة لا تفتر خطب الشيخ “عبد الجليل النذير الكاروري” الذي لا يزال يتمتع بغير قليل من الإبداع والتميز في تعريف وتقديم الخطيب على منابر المساجد، فهو- حفظه الله- في قمة حضوره الذهني والمعرفي، وهذه شهادتي في الرجل ولا تزال موثقة وموثوقة حيث يتحف المؤمنين بخطب (قمة) في كل شيء يطرح فيها التنوير بالنصح والإرشاد، مستحضراً بالوقائع المشهد الآن. وميزة “الكاروري” الذي ظل جمهور كبير يتتبع خطبه من (مسجد الجامعة) إلى (الشهيد) أنه رجل معاصر وفقيه ومرشد حداثي، وتعجبني للغاية مباحثه الدائمة والمستمرة في الاستنباط وعقد المقارنات والمقاربات من واقع حياة الناس وتفاصيل السيرة أو تفاسير القرآن الكريم.
تحدث في موضوعات شتى وعناوين مختلفة فأقنع وأجاد، وتمدد لحين في الغناء والموسيقى فلم يتطرف، بل حدد الجرعة اللازمة غير المفرطة بحجية مقنعة، وتحدث عن (الركشة) وخلطها بين الزيت والوقود، ومنشأ التلوث الذي تحدثه لهذا، وأنه نصح بألا تتم الصلاة في معاطن (الركشات) أسوة بمعاطن الإبل!
عكس “الكاروري” فقد أديت صلاة الجمعة أمس بنواحي أمبدة، فوقعت على خطيب اقتطع الجزء الأول من خطبة الجمعة وحيز عريض منها في مقدمة مليئة بالسجع والأدعية لدرجة أني تعجبت لطمع الرجل الذي يلزمنا بالدعاء قبل العمل والعبادة، وبعدها جلس ليقدم لنا بعدها خطبة هي حديث دين بمعنى تضمنها أحاديث وآيات وكذا، ولكنها بالمقابل بدت وكأنها خطبة (تجميع) بحشد كبير دون رابط.. هذا بالطبع من ملاحظة أن الإمام كان يقرأ من ورقة خفت أن يخطفها من يده تيار الهواء فندخل في مأزق إحضار ورقة أو مطاردة ورقة فضيلة المفتي من جانب المصلين، وقد ارتبك الرجل في لحظة فتداخلت أرقام الصفحات فعلقنا جميعاً في الانتظار ولولا أن الناس كانوا في بيت من بيوت الرحمن لهموا بالرجل.
المقارنة بين “الكاروري” وأنموذج خطيب الخبطة المكتوب تنعدم بالطبع، لكن كلا المثالين يصلحان لإدارة حوار عميق حول الدور الذي يمكن أن تلعبه المساجد بالفائدة إن استندت إلى أنشطة فيها اجتهاد ومبادرات من أئمة وخطباء يجعلون من الخطبة والنص والمناسبة ساحة للتدبر والتبصرة التي ترد السامع إلى تاريخه في التو واللحظة دون أن تغيبه من حاضره الماثل، ولكنها إن ركنت إلى خطباء القراة من الورقة أو الخطيب الذي يجعل من الخطبة ونفسها عملاً بلا فائدة أو جدوى ومسلكاً روتينياً لنفسه وللمصلين معه يفتتح بالسلام وينتهي بقوموا إلى صلاتكم، فحينها لا جدوى لمسجدية مرتجاة ولدور تثقيفي أو تنموي للأرواح والبشر من أولئك الخطباء.
وأعتقد إمامة الناس في المساجد وتقدمهم للخطابة والعنونة للدين يجب أن تراعي خلق أرضية من التواصل بين مختلف الأجيال والمدارس، بحيث يتم الوصول إلى صناعة جيل من الأئمة والموجهين عبر المساجد يتناسب دورهم وعطاؤهم والتطور الكائن بالجملة في الحياة وثورة المعلومات وانفتاح العوالم بأبعادها المختلفة، مما يلزم الداعية بأن يكون حاضراً ومؤثراً وصاحب رؤية تقدم العلم والإيمان في قالب إيماني معاصر.