المشهد السياسي

لماذا ربع قرن .. وكيف؟!

يوم أن ظهرت (الإنقاذ الوطني) في السودان ظهر لها منذ اليوم الأول معارضون اعتمدوا كل الوسائل في ذلك، بما فيها المعارضة من البلاد الخارجية واللجوء إلى القوى المتمردة حاملة السلاح التي لها اتصالاتها وعلاقاتها بالدول الأجنبية. والإشارة هنا واضحة إلى ما عرف بالتجمع الوطني الديمقراطي الذي تكون من كل الأحزاب الكبرى المعروفة وزعاماتها والحركة الشعبية لتحرير السودان SPLA بقيادة زعيمها يومئذٍ “جون قرنق دي مبيور”.
ومن لم يكن هناك يومئذٍ في قيادة ذلك التجمع كان السيد “الصادق المهدي” الذي لحق بالتجمع في هجرته المعروفة بشعار (تهتدون..!) غير أن لحاقه وانضمامه للمعارضة الخارجية في شكلها وهيكلتها المعروفين لم يكن كاملاً. وتلك قصة أخرى لها مرجعياتها الشخصية والسياسية.
إنه ورغم ذلك – وهذا هو ما يعنينا الآن وجعلناه عنواناً (للمشهد السياسي) هذا الصباح هو: لماذا بقى حكم الإنقاذ الوطني لربع قرن من الزمان – وعين الحسود فيها عود؟!
والمدة المذكورة وهي غير معهودة في أنظمة الحكم في البلاد.. إذ كانت كلها ومنذ أول حكومة بعد الاستقلال وإلى عهد الرئيس”عبود” والديمقراطية الثالثة التي حكم فيها السيد “الصادق” وحزبه (الأمة القومي) كانت قصيرة – أي لم تتجاوز الثلاث والأربع والست سنوات – عدا نظام المشير الراحل “جعفر محمد نميري” الذي مكث في الحكم ستة عشر عاماً، وكانت لذلك أسبابه رغم الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة وتحالف ما كان يعرف بقوى المعارضة أي الاتحادي والأمة والجبهة الإسلامية.
ما عرف بنظام (الإنقاذ الوطني) زاد في البقاء على كرسي الحكم وإدارته رغم كل الظروف عشر سنوات كاملة، ويتوقع لها أن تزيد إذا ما أحسن القائمون عليها الإدارة والسيطرة على الأزمات والتدخلات الخارجية.. وربما أكثر من ذلك إدارة العلاقات مع الآخرين من شخصيات وأحزاب وقبل ذلك المجتمع والمواطن الذي له مطالبه وهمومه.
إن الأحزاب المعارضة منذ ذلك الوقت البعيد – أي منذ أن تأسس في “القاهرة” في فبراير 1990 ما عرف بالتجمع الوطني الديمقراطي – كانت تعمل على إسقاط النظام بالانتفاضة الشعبية المحمية بالبندقية..! غير أنه بقي على الحكم لخمس وعشرين عاماً.. ولم نشهد انتفاضة شعبية أو غيرها وإنما شهدنا المعارضة بأحزابها وكياناتها تتفكك وتسلك طرقاً غير مؤدية إلى الطريق الصحيح.
فبين يدينا اليوم ليس ما يذكر من بقايا ذلك بعد أن باعتهم الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLA بقيادة زعيمها الراحل الدكتور “جون قرنق” بدخول في مفاوضات السلام مع الحكومة التي أوقفت الحرب وأوصلت البلاد إلى السلام، وإلى أن تحمل الأحزاب المعارضة في الخارج حقائبها وتعود إلى الداخل ليشارك البعض في المجالس التشريعية والبعض الآخر في الحكومة، ويجلس الآخرون على الرصيف ومنهم ما يعرف بـ(قوى الإجماع) بقيادة الأستاذ”أبو عيسى” والحزب الشيوعي السوداني بقيادة المهندس “محمد الحسن الخطيب”، وآخرون بطبيعة الحال ممن يدعوهم السيد”الصادق المهدي” – زعيم حزب الأمة القومي – بأحزاب الفكة أو الأحزاب صغيرة الجحم..! وهذا صحيح.
والسؤال: لماذا استمر عهد الإنقاذ الوطني حتى يوم أمس الأول لمدة ربع قرن .. وكيف؟ سؤال جدير بأن يطرح في هذا الظرف.. فالإنقاذ ورغم بعض المتغيرات الاختيارية في حزبها (المؤتمر الوطني) وفي جهاز الدولة وما اتصل به.. ما تطرح السلطة من حوار وطني وإعادة نظر وهيكلة في مقومات الدولة والدستور والانتخابات، يبدو أنها قد تستمر.
فلماذا كان ذلك في الماضي – أي منذ التغيير في 30) يونيو 1989 وإلى اليوم.. وكيف؟
لقد بدأت الإنقاذ بالرجوع إلى التاريخ بمشروع (الحوار الوطني) حول القضايا المختلفة ومنها السلام والاقتصاد والعلاقات الخارجية والأمن والدفاع والإعلان والمهن، وكانت حوارات مفتوحة ومتاحة للنخب والمفكرين. وقد كانت نمطاً جديداً في إدارة الحكم واستلهام برامجه.. لم تعرفها الأنظمة الحزبية في السابق.
والجديد في ذلك أيضاً كان هو العلاقات الشعبية عربياً وإسلامياً وأفريقياً مما جعلها حائط أمان ضد الغزو الأجنبي، وداخلياً كان الدفاع الشعبي ودعم القوات المسلحة بالزاد وسائر المعينات والمجاهدين شيئاً آخر حتى كان التصنيع الحربي على أيدٍ سودانية ثم التطور الفني والتقاني الملحوظ في القوات المسلحة.. فقد كانت شكوى القوات المسلحة في مذكرتها لحكومة السيد “الصادق المهدي” في 22 فبراير 1989 هي قلة الدعم وفقدان المعينات.
تلك كانت الخطوة الأولى وما تلاها من خطوات هو إدارة الظهر للدول الغربية والاتجاه شرقاً بالعلاقات..! أي إلى الهند وماليزيا والصين والفلبين في التعليم والدفاع والاقتصاد.. مما كان له أثره الواضح. وقد كان في ذلك خروج على المألوف إلا أنه – كما هو معروف – أتى بثمراته في شتى المجالات ومن أهمها الاقتصاد والوقوف ضد ضغوطات دول القطب الواحد بعد انهيار المعسكر الشرقي.
فالدولة التي كانت تشكو النقص في المحروقات والكهرباء والاتصالات والسلع والمياه والطرق صارت تنتج النفط والمعادن ومصانع السيارات والسلاح (جياد) وغيرها.. مما يراه الناظر ويلمسه بيده كالتعليم والصحة على مختلف الصعد.
هذا كله رغم الظروف الصعبة يجعل المواطن ينظر إلى النظام الحاكم بشيء من القبول، مقارنة بمن يطرحون أنفسهم اليوم من الأحزاب السياسية كبديل له.
إن للإنقاذ أوجه قصورها شأن أي نظام حكم في عالم تكثر فيه المقاطعات والتدخلات الخارجية وطموحات المواطن لا ريب. فالمواطن اليوم غيره بالأمس. ومن حيث ما نظرنا له، فلم يعد همه البحث عن السلعة وإنما عن ارتفاع سعرها وهو قضية مطروحة في كل مكان تقريباً.
وأما كيف؟ فإن الإنقاذ – أكثر من غيرها بكل تأكيد – تعمل على تمتين وتقوية قواعدها رغم ما حدث مؤخراً من خروجات أو انشقاقات. وهذا أحد أهم العناصر في مواجهة التحديات سياسية كانت أو انتخابية أو خلاف ذلك.
إن بقاء الإنقاذ في السلطة لربع قرن لم يكن بسبب (تهالك) المعارضة وضعفها، وإنما بسبب عملها الجاد والمتصل من أجل تماسك أطرافها وإنجاح سياساتها ومواجهة التحديات بالضرورة. والله أعلم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية