تقارير

السودان وإريتريا.. خطوات متقدمة في طريق بناء المصالح الإستراتيجية!!

زيارة فوق العادة إلى السودان تستغرق ثلاثة أيام يقوم بها الرئيس الإريتري “أسياسي أفورقي” بدأها صباح أول أمس (الخميس)، ومن الواضح أنها تستهدف تحريك بعض الملفات المهمة والتي يأتي على رأسها الملفات الاقتصادية والأمنية والسياسية.. الرجل بدا وكعادته بسيط المظهر في لبسه الذي يتمسك دوماً بأنه تعبير عن إرادة الثوار الذين يقودهم، وما إن حطت طائرته بمطار الخرطوم ظهر الرئيس “البشير” على رأس مستقبليه، كما احتشد عدد من أبناء الجالية الإريترية للاحتفاء بمقدمه.
وانتقل الرئيسان “عمر البشير” والرئيس الإريتري الزائر بعد ذلك الى “بيت الضيافة” ودخلا في مباحثات مشتركة تركزت حول العلاقات الثنائية ودعم وتعزيز التعاون المشترك بما يحقق مصالح البلدين.
ثلاثة ملفات في زيارة واحدة!!
وركزت القمة التي جمعت الرئيسين المشير “عمر البشير”، و”أسياس أفورقي”، والوزراء من الدولتين بالخرطوم أمس الأول (الخميس) في مستهل الزيارة، ركزت على الربط الكهربائي بين البلدين، ومد “إريتريا” بالمشتقات البترولية السودانية، بجانب عدد من الملفات الاقتصادية والأمنية التي تهم البلدين.
وقال وزير الدولة بالخارجية “عبيد الله محمد عبيد الله”، إن اللقاء بحث قضايا التعاون الاقتصادي، لا سيما في مجال الربط الكهربائي بين البلدين، خاصة وأن هناك جهوداً حثيثة لربط السودان وإريتريا بالكهرباء. وأضاف: (تم التشاور بين الجانبين حول أهمية إكمال هذا المشروع في القريب العاجل). وأشار “عبيد الله” إلى أن المباحثات تناولت إمكانية مد “إريتريا “بالمشتقات البترولية السودانية، فضلاً عن جهود البلدين في ضبط الحدود المشتركة وتأمينها. وقال إن المباحثات كانت مثمرة ومفيدة، وستعود بالنفع لصالح شعبي البلدين. وقال إن اجتماعات الوفدين السوداني والإريتري برئاسة “البشير” و”أفورقي، ناقشت تعزيز علاقات البلدين، ودفع آفاق التعاون بين الخرطوم وأسمرا، مشيراً إلى العلاقات الأزلية والروابط التاريخية التي تربط الشعبين.
طباعة العملة الإريترية في مطابع العملة السودانية
وحوالي الساعة العاشرة من صباح أمس (الجمعة) توجه الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي” والوفد المرافق له في المحطة الثانية لزيارته للبلاد إلى مطابع العملة جنوب الخرطوم، وكان في استقباله وزير المالية “بدر الدين محمود” ووزير الموارد المائية والكهرباء “معتز موسى”، ومحافظ بنك السودان المركزي، رئيس مجلس إدارة مطابع السودان للعملة “عبد الرحمن حسن”، والمدير العام لشركة مطابع السودان للعملة المهندس “صلاح أحمد علي” ونائبه الدكتور “عباس أحمد محمد” وعدد من مديري الإدارات والعاملين بالشركة، وصاحبت الزيارة جولة تعريفية بأقسام ووحدات الإنتاج بشركة مطابع العملة، حيث وقف على ماكينات ومعدات طباعة العملة، وماكينات وخطوات طباعة الشيكات لجميع البنوك وفقاً لاحتياجاتها وبكفاءة عالية، كما تعرف على قسم طباعة كروت تعبئة الهاتف المحمول المخدوشة وطباعة نماذج فواتير الحاسوب المستمرة، وكلها تعمل وفقاً لأحدث النظم التكنولوجية الطباعة. وبدا واضحاً اهتمام الرئيس الإريتري بمطابع العملة التي طاف على جميع أقسام عملها.
وقد تعرف الرئيس الإريتري ووفده إلى كل التفاصيل المتعلقة بالمطابع السودانية التي تأسست في العام (1994)، والتي تعتبر إحدى أربع مطابع على مستوى العالم العربي، وإحدى سبع مطابع على مستوى القارة الأفريقية وتقوم بصناعة العملة بجميع مراحلها، وتنتج (600) مليون قطعة نقدية في العام، وهي معدة الآن لتطبع العملة لأية دولة متى ما طلبت ذلك.
وبعدها زار الرئيس “أسياس أفورقي” مصفاة الذهب، للتعرف على طريقة العمل هناك، وربما تكون زيارة الرئيس الإريتري مؤشراً إلى توقيع اتفاقية لطباعة العملة الإريترية في مطابع العملة السودانية ذات المواصفات العالية.
الأمن الإقليمي
ومن المنتظر أن يتم اليوم (السبت) بحث محور آخر بين السودان وإريتريا وهو المحور الأمني، والذي يرجح البعض أن يحسم قضايا “الاتجار بالبشر” وسبل مواجهتها، بالإضافة لمعالجة أوضاع المواطنين الإريتريين المقيمين بالسودان، أما الملف الأخير الذي ستطويه هذه الزيارة فهو الملف الاقتصادي والذي يشمل في طياته تفعيل تجارة الحدود بين السودان وأهداف أخرى مثل مواصلة مشروعات الطريق البري، توصيل الخط الناقل للكهرباء وأية مشروعات اقتصادية أو تنموية أخرى. وكان الرئيس “أفورقي” قام بزيارة مماثلة إلى ولاية “البحر الأحمر، ومن المفارقات أن الزيارة كانت عبر البر، وسبقها بزيارة مماثلة الى ولاية كسلا إبان زيارة أمير قطر السابق للولاية.
تجاوز القطيعة وتحسن العلاقات
تجاوز البلدان القطيعة والتصعيد وظهر الانفراج في علاقاتهما بشكل علني، بعد قرار الحكومة السودانية تصفية المعارضة الاريترية، حيث يقول خبراء، إن التعاون الأمني بين الخرطوم وأسمرا كان أول اختراق لجهة تطور علاقات البلدين التي كان يسودها التوتر خلال السنوات السابقة وتعتبر الفترة من ديسمبر 1994م وحتى مايو 1997م أحلك وأصعب فترة تمر بها العلاقة السودانية الإرترية. ومن أبرز ملامح هذه الفترة حيث ظلت الحكومتان تحتفظان بحركات المعارضة في بلديهما رغم اتفاقات سياسية عديدة أبرمت بينهما منذ الوساطة القطرية عام 1999م وحتى الزيارات المتبادلة للرئيسين “عمر البشير” و”أسياس أفورقي”، وجاء قرار الحكومة بشأن المعارضة الإريترية بتدرج بدأ بإغلاق معسكرات التدريب ثم إغلاق إذاعة الشرق ثم بتقليص الدعم المحدود ثم بإيقافه نهائياً ثم بايقاف رسالة إرتريا التي تصدر أسبوعياً في صحيفة (الوطن)، ثم توج الأمر بقرار إيقاف نشاط المعارضة نهائياً، وبالمقابل بدا واضحاً سير إريتريا في ذات الطريق نحو الحكومة السودانية، حيث بات دعم إريتريا للمعارضة السودانية ضرباً من الماضي، بينما انحصرت المخاوف السودانية من أمر واحد تقريباً هو موضوع التقارب الإريتري الإسرائيلي، مع التذكير بأن القوات الخاصة الإسرائيلية سبق وأن شنت هجمات على من تصفهم بتجار أسلحة يقومون بتهريبها إلى حركة “حماس” الفلسطينية، وهو ما تعده إسرائيل خطاً أحمر، وتهديداً لأمنها القومي، بينما يلاحظ مراقبون حجم التمدد الإسرائيلي بالبحر الأحمر، والذي بات يشكل تهديداً جدياً للأمن القومي السوداني.
إريتريا الجغرافيا والتاريخ
وتتمتع دولة إرتريا بموقع إستراتيجي مُتميّز في شرق القارة الإفريقية، حيث تطل حدودها الشرقية على البحر الأحمر بساحل يبلغ طوله (25) كلم، وهي الدولة الثالثة في الترتيب بعد السعودية ومصر، يمثل (التقرينيا) حوالي (50%) من السكان والتقراي والكدناما حوالي (40%) والساهو حوالي (10%). وتنقسم البلاد إلى عشر مقاطعات تحكمها حكومة انتقالية وبدستور انتقالي منذ استقلالها عن إثيوبيا في 24 مايو 1993م. واللغات السائدة هي العربية والعفر والأمهرية، ونسبة التعليم بينها حوالي(30%). يُقدّر الناتج القومي الإجمالي بحوالي (2,5) مليار دولار، وهي تعد من الدول الفقيرة حيث لا يتجاوز دخل الفرد دولارين في اليوم. وتعتمد البلاد على الزراعة والرعي وصيد الأسماك، كما بها موارد طبيعية كالذهب والنحاس والزنك وغيرها، وجعل الموقع الإستراتيجي إريتريا عرضة للأطماع الاستعمارية.
ويرجع الشعب الإريتري في نشأته إلى أصول يمنية هاجرت من الجزيرة العربية (الأكسوميون)، بالإضافة إلى أصول بجاوية ينتشرون في غرب وشمال البلاد وهم يشكلون امتداداً لقبائل شرق السودان حيث تتداخل بطون القبائل في الدولتين عبر الحدود المشتركة التي تمتد قرابة مائتي كلم.
إريتريون في السودان
عندما قدم الإرتريون منذ منتصف السبعينيات وحتى يومنا هذا من مدن مثل “كرن، وأغردات، وتسني، وعلي قدر، وأسمرا، ومصوع “إلى المدن السودانية مثل” كسلا، وبورتسودان، والقضارف”، لم يتجه معظمهم إلى معسكرات اللاجئين، كما حدث للاجئين من الريف الإريتري في الستينيات، بل استقروا في المدن السودانية لدى أقارب لهم إما جاؤوا إلى السودان في الستينيات أو قبلها، أو هم أصلاً من سكان شرق السودان، لذا فإن اندماج الإرتريين بمختلف قبائلهم في هذا المجتمع المحلي لم تكن فيه أية غرابة بأي حال من الأحوال.
تقاطعات التاريخ والجغرافيا
ويرى مراقبون أن الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي مرهون بالتعامل السلمي الديمقراطي والعادل مع تداخلات شعوب المنطقة، فالعفر، والبني عامر، والحباب، والتجرينيا، والساهو، والكوناما، والصومال، وغيرها من قبائل جنوب إثيوبيا وجنوب السودان هي قبائل، ومجموعات قومية، وعرقية، ولغوية عابرة للحدود، وبالتالي يتطلب من حكومات السودان وأريتريا مراعاة هذه العوامل جميعها، وتعتبر زيارة الرئيس “أفورقي” الأخيرة خطوة عملية في اتجاه تفعيل المصالح المشتركة لشعبي السودان وإريتريا. وكان وزير الخارجية الإريتري مهد لهذه الزيارة بوصوله إلى البلاد قبل فترة طويلة رتب من خلالها ملفات الزيارة مع رصيفه السوداني ومن ثم توجه لاجراء فحوصات طبية بالسودان، فيما أفادت مصادر أن “افورقي” عقب اكمال مشاوراته الرسمية ربما يخضع لفحوصات طبية في واحدة من أكبر المستشفيات الخاصة في السودان، وكل ذلك يتعتبر مؤشر لثقة متبادلة بين حكومتي البلدين، يمكن أن تدفع بمسيرة العلاقات إلي افاق بعيدة في ظل تحديات تواجه النظامين الجبهة الشعبية في إريتريا والحكومة في السودان، وتعتبر إقامة مؤسسات التنمية المستدامة في المنطقة الحدودية بين البلدين بما يحقق التكامل والتواصل، عن طريق التعاون السوداني الإريتري المشترك في مجالات الزراعة والطاقة والاتصالات والمياه وغيرها عاملا حاسماً في تحقيق الاستقرار الأمني والاجتماعي للبلدين.
لعبة السياسة
أخيراً يرى محللون سياسيون أن الهواجس الأمنية للسودان ستكون هي القضية الرئيسة في هذه الزيارة، ويرون أن “أفورقي” ربما يستفيد من هذه الورقة مع الحكومة، مقابل تقديم النفط والمواد الأخرى لبلاده بأسعار زهيدة، ويرون أن الرجل يجيد الاستفادة من الواقع الإقليمي جيداً في تعاطيه مع الحكومة لطبيعة حساسية موقع شرق السودان في خارطة البلاد والاستهداف الإقليمي والدولي لهذه المنطقة والتوترات الداخلية وسط السكان بسبب المعاناة والحرمان، كما أنه ربما يستفيد من التوتر الصامت بين السودان ومصر بسبب موقف الأول المؤيد لبناء إثيوبيا سد النهضة ودعم السعودية وأغلب دول الخليج للنظام المصري الجديد، هذا التطور بجانب الحرب الأهلية في جنوب السودان زاد من مساحة المناورة الإقليمية لدى “أفورقي” خصوصاً وهو ليس ببعيد من لعبة الصراع الإيراني – الإسرائيلي في البحر الأحمر ويدرك عمق التوجس السعودي من الدور الإيراني في الإقليم خصوصاً دعم الحوثيين في اليمن، ويرون أن كل هذه الأوراق ستشجع “أسياس” ليطالب مضيفيه بثمن أكبر مقابل دور ربما يلعبه في العديد من قضايا الأمن الإقليمي والتي تؤثر على شرق السودان أو على الأقل مقابل أن لا ينخرط في أي نشاط ضد السودان.
الرئيس الإريتري “أسياسي أفورقي” لدى زيارته مطابع العملة صباح أمس برفقة وزير المالية “بدر الدين محمود” ومحافظ بنك السودان “عبدالرحمن حسن” ووزير الكهرباء “معتز موسى”

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية