رأي

عبقرية كُتاب الأعمدة

في كل أنحاء العالم لا يصل الكاتب إلى مرحلة الإدلاء برأيه في كل قضية إلا إذا اكتسب خبرة كبيرة جراء عمله المتواصل في دروب الصحافة، ودروب الصحافة تعني تحرير الخبر، والقيام بالتحقيقات الميدانية، ولقاء أهل الخبرات، ومعرفة كيفية جمع المعلومات وتحليلها والمقارنة بينها.. الخ هذه الأشياء.. بعد أن تكتمل عنده هذه الملكات بعد عدة سنوات يمكن أن يدلي برأي مفيد، ولن يستطيع أحد أن يعترض عليه، لكن عندنا نحن يمكن أن نجد كاتباً مستواه لم يتخطى المرحلة الابتدائية يدلي بآراء قاطعة في شؤون المرحلة الابتدائية في قضايا حساسة تحتاج لمعلومات وفيرة. نعم يمكن لخريج الابتدائي أن يدلي برأي في قضايا عامة، وفي مشاكل يعرف أسرارها هو، وله الكثير من المعلومات حولها ومن ثم لا يجد صعوبة في تحليلها، لكن مثل هذه المشاكل لا تكون عادة بحاجة إلى هذه المراجع، ويمكن لشخص متواضع الثقافة أن يدلي بآراء في قضايا عرف هو بعض أسرارها وخباياها وأثبت ذلك من خلال المعلومات الوفيرة التي قدمها.
فيما عدا ذلك لا يستطيع أي شخص أن يدلي بآراء قاطعة في قضايا تحتاج إلى تخصص ومهنية، إلا إذا كان هذا الشخص ذا خبرة صحفية كبيرة علمته كيف يجمع الآراء وكيف يستنطق الشهود، وله القدرة على الحركة في كل مكان بحثاً عن معلومة.
ماذا يحدث الآن؟ تلاحظون أن الصحف فتحت صفحاتها لكل من هبّ ودبّ حتى الذين ليست لديهم خبرة صحفية كافية أصبحوا يدلون بآراء في قضايا مهمة جداً تحتاج لتخصصات عليا، مثلاً قطع أحدهم أن نوبة الشمال ونوبة جنوب غرب كردفان هم من أصل واحد استناداً إلى وجود كلمات مشتركة في اللغتين.. ونقول أولاً هي ليست لغتين لأنهما الآن لهجتان غير مكتوبتين، صحيح أن النوبة كانت لهم لغة مكتوبة في يوم من الأيام، ولكن هذه اللغة اندثرت منذ مئات السنين، وأصبح الجميع يتحدثون العربية بطلاقة ولم يعودوا بحاجة إلى لغتهم، فالذي يأتي إليّ ويقول إن هناك كلمات مشتركة بين اللغتين وهذا دليل على وحدة الأصل، يجب أن أحيله إلى اختصاصي في علم الأجناس، ولن أقبل حديثه كما هو، ونحن نرى أن المجموعتين تنتميان لعرقين مختلفين تماماً، وكل من يحاول يثبت أن السودانيين من أصل واحد عن طريق اللغة لن يثير سوى الضحك، لأن المجموعتين تعيشان في منطقتين تبعدان عن بعضهما حوالي الألف ميل لكل منهما عاداته وتقاليده التي تختلف تماماً عن عادات وتقاليد العرق الآخر، كما أنه يحمل ملامح ولوناً لا علاقة لهما بالعرق الآخر. وقد حسم العلماء هذا الجدل منذ وقت طويل، ولكن بعض الذين لا يقرأون لازالون يحكمون بالرومانسيات والأمنيات، ويدلون بآراء مضحكة جداً ويجزمون جزماً قاطعاً أن وجود كلمات في تلك اللغة دليل على وحدة الأصل، وهذا رأي لم يدلي به أي خبير أجناس في العالم.
هناك الكثير من الكلمات الفارسية والتركية والانجليزية تستخدم في لغتنا العربية، فهل هذا يعني أن هذه الشعوب كلها من أصل واحد لمجرد وجود كلمات مشتركة. إن تصنيف الأجناس له قواعده التي تبدأ من الملامح وشكل الأنف وشكل الفم ونوع الشعر والحجم والتركيبة العضوية وأشياء كثيرة جداً يعرفها العلماء، لكن (السذج) أراحوا أنفسهم بهذا التعريف الساذج، لأننا في بلد يمكن أن يدلي فيه أي شخص أخطر الآراء في عمود صحفي دون أن يسأله أحد من أين أتى بهذه المعلومة؟
إن محاولة إثبات أن السودانيين كلهم من أصل واحد وتضييع وقت الناس فيما لا يفيد، لأنهم يعرفون أنهم ليسوا من أصل واحد، كما أنهم يعيشون عدة ثقافات ولغات لا تشابه بينها، ومحاولة إثبات أنهم من أصل واحد لإيقاف الحرب لن تثير في الناس سوى السخرية لأن الوضع الطبيعي أن بلداً كالسودان بهذه المساحة الشاسعة لابد أن يجمع عدة أعراق تتعايش فيما بينها كما هو الحال في كل العالم، فـ”أمريكا” الآن تعيش فيها عشرات الأعراق ولم يدعوا أنهم من عرق واحد وذلك لم يمنع توحدهم وقوتهم، فهم أقوياء بنظامهم الذي اختاروا ونظموا به حياتهم، ويمكن لأي شخص أن يتأكد من صحة أية معلومة بالعودة إلى المراجع ليعرف أصول الأعراق، والآراء الساذجة لا تفيد في هذه الناحية ولا تعني وجود عدة أعراق. إن هذا البلد لن يتوحد ولن تسود فيه ثقافة واحدة، مشكلتنا أننا منحنا عموداً لكل من طلبه وتركناه يكتب ما يشاء له من الكتابة حتى أصبح الواحد منهم يعتقد أنه أوتي مجاميع الكلم، وأصبح يدلي بآراء في كل شيء تقريباً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية