أخبار

راحت عليك..!

كثيرون يظهرون فجأة في حياتنا ليقدّموا لنا ليس (النصح) وإنما الذي يليه، وهو العتاب واللوم.. والمقولات المحفوظة والمكررة على شاكلة: (مش قولنا ليك ما تعمل كده.. إنت زول ما بتسمع الكلام.. براك عملتها في روحك.. خلاص راحت عليك.. لكن ما بالغت.. دي عملية تعملها.. والله إنت زول مسكين ساي..الخ).
ولأن المعاتبين واللائمين يدهم في الماء وليس النار فهم لا يمارسون طقوس المواساة والعزاء إنما يشيعون المخطئين والغافلين إلى مثواهم الأخير ويشعرونهم أنّ مشكلتهم ليست في المصائب التي حلّت بهم وإنما في عدم الاستماع الجيد للنصائح المجانية التي كانت تقال لهم..
كثيرون في هذه الحياة يزيدون من معاناة الآخرين حين يمارسون عليهم (جلد الذات) دون أن يتفهموا الأسباب الحقيقية التي أودت بهم إلى تلك المآلات الصعبة والمربكة.. وكثيرون لا يتورعون عن إشعار هؤلاء التعساء بأنهم سقطوا في شر أعمالهم رغم أنّ جريرتهم قد تكون ضئيلة جداً ولم يتأذ منها أحد سوى هم أنفسهم.
النصح مطلوب دون وصاية وأستاذية. لكن غير المطلوب ولا المحتمل هو أن يتحوّل هؤلاء الناصحون لاحقاً إلى رماة للحجارة على أجساد ضعيفة كانت تحتاج إلى مَنْ يطبطب عليها ويواسيها أو حتى يناقشهاً في هفواتها وأخطائها بشكل موضوعي وهادئ بدلاً من تلك الطريقة القاسية التي تشبه التشفي والاصطياد في المياه العكرة.
إننا بشر وليس ملائكة.. والبشر يخطئون.. وخير الخطائين التوابون.. والمسيح عليه السلام يقول: مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.. وهذا كله نقوله ليس من باب تبرير الأخطاء أو غض الطرف عنها حيث لابدّ من الحرص بداية على عدم الوقوع في الخطأ وحيث لابدّ لاحقاً من الاعتراف بالخطأ والعدول عنه، ولكن الخطأ الأفدح في اعتقادنا هو أن تكثر السياط على المخطئين من قِبل المحيطين بهم، وبدلاً من مساعدتهم على تجاوز أزماتهم العمل على مضاعفة هواجسهم وأشعارهم بأن ما فعلوه هو نهاية العالم.
ما نعنيه هنا تحديداً هو تلك القرارات التي يتخذها البعض في حياتهم.. في الزواج مثلاً أو حتى في الطلاق.. وغيرها من قرارات شخصية قد تكون معيبة أو مخطئة حيث ينبري ويتطوع عادة بعض الأشخاص فيقدّموا وجهات نظرهم في شكل نصائح فإذا صادف أن خالفها شخص ما واتخذ القرار الذي يراه هو مناسباً ثم جاءت النتائج بعكس ما كان يتمنى ويأمل فإنّ النار ستفتح عليه من أولئك الناصحين الذين كل ما يعنيهم هو إثبات أنّ رأيهم كان صواباً وأنّ الرأي المخالف كان خطأ وبالتالي على صاحبه أن يدفع الثمن باهظاً.
وفي الأغاني السودانية هناك بعض النماذج التي تمارس مثل هذا اللوم ومنها أغنية (أسرار بابكر) (راحت عليك).. التي تحمل قدراً من العتاب والذي وإن بدا رقيقاً في ظاهره لكنه لا يخلو من روح ناقدة ومتهكمة وربما شامتة.. وليس أغنية (راحت عليك) وحدها التي تشي بهذه الأجواء فهناك أيضاً “محمد ميرغني” الذي تكاد تتندر إحدى أغانيه بعاشق ولهان حيث يقول مقطع منها : (ما قلنا ليك.. الحب صعيب.. الخ).. وبعيداً عن (الغناء) الذي لا نظن أنّ مقاصده تسعى للنيل من أحد باعتباره موجهاً للعامة وليس لشخص بعينه.. فإنَّ (الناصحين) و(اللائمين) حين يرون وجوههم في المرآة وبعيداً عن أي أقنعة عليهم أن يشعروا هم أيضاً بأخطائهم وهفواتهم وليمارسوا قليلاً من النقد لذواتهم كي يعرفوا كيف أنَّ النقد الذي حين يقترب من جلد ذات الآخرين هو بالفعل مؤذٍ ومرهق ومتعب..!.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية