رأي

مع «فلاح» كانت لنا أيام!!

رحم الله الشاعر المرحوم “أحمد فلاح” مؤسس (دار فلاح لتطوير الأغنية الشعبية) والتي أسسها في ستينيات القرن الماضي، تذكرته لأكتب بعض العبارات في حقه ونترحم عليه، فقد كان رجلاً عظيماً ووجدت من الواجب الكتابة عنه لا سيما فقد تتلمذنا على يده وعشنا معه عقوداً من الزمان، كنا ننهج من معينه في الدار التي أسسها قرب مبنى سرايا الإمام “عبد الرحمن المهدي” – يرحمه الله – مروراً بمكان الدار بـ(نادي العمال) بأم درمان شمال معهد القرشي، وقد ظل مقراً لـ(دار فلاح) لسنوات جعل منها الراحل “محمود فلاح” داراً تمور بالنشاط الغنائي انخرط فيها وتتلمذ على يديه عشرات الفنانين الذين صقلوا مواهبهم بواسطتهم.. وللراحل تاريخ قديم مع الغناء والشعر والشعراء وهو وشقيقه “أحمد فلاح” وكلاهما مولع بالشعر والغناء إبان فترة ما عرف بمرحلة الحقيبة ليرحل “أحمد” بعد أن أسهم في ساحات الغناء في ذلك الزمان حتى شهد له كبار الشعراء أمثال الشاعر الكبير المرحوم “إبراهيم العبادي”. ظل الشقيقان يعملان في صناعة العصي حتى برعوا في تلك الصناعة، واتخذوا من مقاهي أم درمان سوقاً لصناعتهما، لكن أجمل ما في تلك المهنة أنها كانت تجمعهما بأساطين الطرب والغناء ونجوم الرياضة والسياسة والصحافة وأشهر المقاهي التي كان يجلس عليها هؤلاء النجوم بأم درمان كانت محل “جورج مشرقي” و”يوسف الفكي” و”محمد خير” وبعض صوالين الحلاقة، وهناك يجد “أحمد” و”محمود” ضالتهما في التعرف على المبدعين، وبرحيل “أحمد فلاح” واصل “محمود” مسيرته الإبداعية، فأنشأ مكتبة لبيع الصحف والكتب وبعض الإصدارات، وكانت مكتبته أيضاً مكان التقاء أبناء الحس الإبداعي، وظلت تراوده فكرة إنشاء دار لناشئة الفنانين، إذ سيطرت عليه فكرة أن يجعلها للفن الشعبي والسعي لتطويره، فأنشأ أول فرقة حشد فيها العديد من الآلات الإيقاعية وبعض الآلات الوترية النحاسية الموسيقية، وبدأ في تدريب بعض ناشئة الشباب من المغنيين والكورس.. والرجل كان مثقفاً وشاعراً ومغنياً ومتحدثاً لبقاً وصاحب طرفة ونكتة.. وبدأ يلتف حوله الشباب والشيوخ من الشعراء أبرزهم كان الراحل “محمد بشير عتيق” وعدد من شعراء الحقيبة، ومن المخضرمين كان الفنان “محمود عبد الكريم” وعدد من الشباب وقتها من الشعراء والمغنيين أبرزهم “كمال ترباس” و”النور الجيلاني” و”محجوب كبوشية” و”عبد الوهاب الصادق” والمرحوم “فضل محمد أحمد” و”عبد الله الحاج”، وكنا حضوراً للبروفات المكثفة التي كانت تقام في الأمسيات في صحن (دار فلاح) لا سيما الأغنية الجديدة وإعادة صياغة الأداء في أغنيات الحقيبة الشهيرة، إلى جانب تنظيم الحفلات العامة والخاصة لطالبها.
وكان التنافس على أشده بين (دار فلاح لتطوير الأغنية الشعبية) و(اتحاد فن الغناء الشعبي).. وقتها كان الفنان “عصمت على الله” والفنان “أبو عبيدة حسن” يقدمان نمطاً من الغناء الذي اصطلح على تسميته بـ(الشعبي)، لكنه فن معاصر وحديث، فالفرقة المصاحبة كانت تضم آلة (الجيتار) و(البيز جيتار) و(المندلين) والإيقاعات وأفراد الكورس، وهنالك الراحل “ود السافل” و”محجوب كبوشية” وكلاهما يقدمان غناء (الدلوكة) والحماسة، أما “النور الجيلاني” فقد كان سيد الساحة بتقديمه ضرب من الغناء اعتمد على قدراته الأدائية الرائعة بينه وأفراد الكورس، وكانت (مادلينا) للشاعر “محمد سعد دياب” أغنية الساحة، أما “عبد الوهاب الصادق” فقد تفوق في تقديم أغنيات مثل (ست الريد) للشاعر الرقيق “مكاوي”، ومن كلمات وألحان “محمود فلاح” (كانت حبايبي الحلوين)، ومن كلماتي وألحاني من (بعد ما فات الأوان) و(لو حبايب زي ما بتقول) وكان للشاعر “عزمي أحمد خليل” و”مختار دفع الله” والراحل “معتصم أحمد الشيخ” والصديق المهاجر الصحفي “عبد العال السيد” الذي اشتهرت أغنية (زهرة السوسن) والتي أهداها للمرحوم الفنان المعلم “عبد الله الحاج”، وكان منهم الراحل “ذو النون بشرى” والإعلامي الكبير “عمر عثمان” شفاه الله – ومنهم وغيرهم عرفنا الطريق إلى استوديوهات الإذاعة والتلفاز، وقد أُتيحت لنا الفرص في تقديم وإعداد البرامج من مطلع الثمانينيات للقرن الماضي الشيء الذي أبعدني عن مجال دراستي القانونية، فالإعلام والفنون والغناء كانت تلك المساحة التي استغرقت معظم أبناء جيلي وزملاء الدراسة بالجامعة أمثال “سعد الدين إبراهيم” و”محمد نجيب محمد علي” و”عبد الوهاب هلاوي”، وأعتز كثيراً أن أول إطلالة الفنان “حسين شندي” كان عبر برنامج كنت أعده وأقدمه بالتلفزيون بعنوان (حروف وأنغام) ثم (مقاعد فنون) و(مسرح المواهب) وعدد من سهرات المنوعات، أيضاً الإطلالة الأولى للراحل “الأمين عبد الغفار” وكلاهما كانا من رواد (دار فلاح) تركا مهنة التدريس للتفرغ للغناء، وفي اعتقادي أن الراحل “محمود فلاح” له الرحمة كان أحد المجددين في الفن السوداني، وكانت له رؤى عميقة حول تطوير الفن السوداني ويحتاج منا لوقفات للكتابة والتوثيق لسيرته العطرة، والحديث نوجهه للمسؤولين عن الثقافة بعاصمة البلاد، ونقول لـ”فلاح” أبناء وبنات على رأسهم “أحمد” وهم آلوا على أنفسهم مواصلة السير في خطى والدهم وحافظوا على منتداه الأسبوعي الراتب، والآن غادروا (نادي العمال) بأم درمان الذي استضاف دار والدهم لسنوات – غصباً – وللمنتدى مصاريف وتفاصيل الاستمرار في البرامج تحتاج كلفة مالية وقطعة أرض تحتاج لإقامة صرح باسم رجل رحل وخدم الثقافة السودانية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية