رأي

حكاية فايزة (أنتنوف)

قرأت حواراً أجرته الابنة “فاطمة أحمدون” بـ(آخر لحظة) مع فتاة وجدت نفسها في أتون الحرب في “دارفور”، حيث نشأت لا تعرف إلا لغة الرصاص والقنابل و(الكلاشنكوف) و(الار بي جي) وفقدت أنوثتها لأنها تضطر يومياً للسير لعشرات الكيلو مترات في جو شديد الحرارة، فماتت الأنثى فيها وقد ظلت تقاتل لفترة طويلة وقالت إنها لم تعد تفكر في هذا الموضوع بعد أن فقدت قريتهم نصف شبابها ولم يعد يقاتل غير الشيوخ والنساء فقد حصدتهم الطائرات الحكومية. نشأ جيل كامل لا يعرف شيئاً عن التعليم في المدارس أو الجامعات. وهاجمت النخب من أبناء “دارفور” الذين تسببوا في مقتل الآلاف من شبابهم، وقالت إنها فكرت في التوقف عن القتال عندما التفتت يوماً ولم تجد حولها إلا الشيوخ والنساء بعد أن قُتل نصف شباب القرية ولم يبق إلا النساء والأطفال.
الفتيات في سنها يحلمن بـ(العريس) والحياة اللذيذة، وهي لم تعد تفكر في ذلك بعد أن خسرت زواجها، لأنها تعيش حياة غير مستقرة نصف أهلها في المعسكرات والنصف الآخر شرد في الصحارى لا يستطيعون البناء في مساكن ثابتة لأن الطائرات ستهاجمهم، ولم تعد في حياتهم سوى كلمة (أنتنوف)، وهي الطائرة التي تلقي القنابل فتحيل القرى إلى حجارة، توقفت مع نفسها وتساءلت هل مطالبنا لا تحل إلا برفع السلاح وهذا الحال؟، وأي مقاتل يسأل نفسه هذا السؤال يجيب أن الأمر لا يستحق وأن المنظمات التي تأتي لتوزيع الإغاثة والأدوية هدفها إطالة زمن الحرب، وهذا ما أدركه العقلاء من أبناء “دارفور”.
لقد كان أبناء “دارفور” قبل الحرب ينعمون بالاستقرار ويمارسون (الزراعة) إذا ضاق بهم الحال يهاجرون إلى منطقة في السودان أو إلى خارج السودان دون أن يمنعهم أحد، ولكن الأوروبيين عندما جاءوا أقنعوهم بسرعة أن القبائل العربية تعمل على إبادتهم، ولا يعرف أحد هل أصيبت هذه القبائل العربية بالجنون حتى تتحول لقاتل لا يعرف خصمه، لهذا اقترحوا (الجنجويد) هذه الكلمة التي ليس لها معنى وأصبحوا يخافون من هذه الكلمة وكلما شاهدوا قبيلة عربية دخلوا معها في اشتباك دون أي سبب فقط لأن الخواجات أقنعوهم بأنها ستستعبدهم. لقد كانت “دارفور” مملكة مستقلة 1916م تحت قيادة السلطان “علي دينار”، والذي كان يمارس نشاطه كأي ملك في أية مملكة أفريقية، والذين قضوا على هذه المملكة هم (الانجليز) الذين قتلوا “علي دينار”، بينما لم يهاجم إطلاقاً أي من القبائل العربية، ولم تكن “دارفور” تعتمد على أية منطقة أخرى في غذائها، فقد كان سكانها يمارسون (الزراعة) و(الري)، وفجأة توقف كل ذلك ولم يفيقوا من هذا الجنون إلا والطائرات تحلق فوق قراهم لتحيلها إلى حجارة..
لقد سردت لـ(آخر لحظة) موقفاً سيسيل الدموع من عيونكم، لقد كانت تتجه إلى مسجد القرية لصلاة (الجمعة) ويسير أمامها ثلاثة شيوخ، وجاءت طائرة (أنتنوف) حصدت الثلاثة شيوخ أمامها ولم تتركهم إلا أشلاءً. ومن قصص مآسي الحرب التي شهدتها فايزة (أنتنوف) عندما تهجم الطائرات يهرب الجميع حتى النساء الحوامل اللائي يصبن بالإرهاق أثناء هذا الجري، فيتوقفون رغم المخاطر وعندما يتوقف الأهل بسبب الإرهاق لن يلتفت إليها أحد إلا إذا كانت أمها أو أختها، فالجميع يبحث عن مخبأ وإن لم يكن معك أم أو أخت فذلك يعني أنك ستموت في الحال. وفي النهاية لن يجدوا مخبأً إلا في الغابة. هناك الكثير من المآسي التي لو رويناها لبكيتم جميعاً. ولكن الحمد لله أن (الناس) عادت للعقل، واقتنعت الحركات المسلحة أن هذا الطريق ليس وراءه غير الموت، وأن الأوروبيين لا يريدون الحياة لأهل المنطقة لأنهم يريدونها منطقة خالية من السكان.
لقد عادت فايزة (أنتنوف) إلى عقلها بعد أن شاهدت قريتها فرغت من الشباب، إنهم إما في القبر أو في المستشفى من أجل اللا قضية، ولو توقف أحدهم وسأل نفسه هل هناك داعٍ لكل هذا؟ لماذا يموت أبناء “دارفور” ويعيش أبناء الخواجات في المصايف والحدائق؟.
إننا بحاجة لثقافة جديدة بعد هذا الحوار، ثقافة الحياة المدنية، لماذا لا تتجه قوافل الزراعة إلى “دارفور”.. لماذا لا تتجه الحفارات إلى “دارفور”.. لماذا لا يستفاد من هذه الأنهار في باطن الأرض.. لماذا لا تعود “دارفور” خضراء كما كانت؟!! إن هذا الحوار أيقظ فينا أشياء كثيرة لم نكن ننتبه لها، وكلها تقول إنها حرب عبثية، وأن الذين أشعلوها لا يخشون عُقباها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية