من مآسي الحرب في الجنوب
هناك الكثير من المآسي حدثت في حرب الجنوب الطويلة العقيمة، بعضها عشتها بنفسي وعشت نتائجها المؤلمة. أول مدرسة ابتدائية عملت بها التقيت أستاذاً شاباً عمل في الجنوب لفترة عندما كان العمل في الجنوب مفروضاً لمدة عام على كل معلم ولا حل أمام المعلم إلا قضاء هذا العام، وعندما جاء دوره لم يجد مفراً من التوجه للجنوب وكأنها رحلة عادية مثل باقي الرحلات، لأن التمرد لا يهاجم المدن كما ظن، لكنها كانت سبباً في مأساة استمرت معه وتسببت في موته.
حكى لي عن قصة هجوم للمتمردين على القرية التي كان يعمل بها وظلوا طوال اليوم ولم يستطيعوا الاتصال بأية جهة لأن الجيش لم يكن موجوداً في تلك المنطقة.
قال لي كان الرصاص (يلعلع) فوق رؤوسنا طوال الليل ولا يستطيع الواحد منا أن يتحرك خوفاً أن تصيبه رصاصة، وكان المتمردون يطلقون الرصاص علينا وهم يعلمون أنهم معلمون لا علاقة لهم بالحرب، وسقط الكثير من طلاب المدرسة بين قتيل وجريح ولم يكن هناك سوى صندوق إسعافات بدائي لم ينجح في إيقاف نزيف الكثيرين فماتوا. وقال لي إن الواحد منهم لم يستطع الخروج حتى ليتبول والرصاص فوق رؤوسهم، وعندما توقف الرصاص لفترة من الوقت ظن أن المعركة انتهت، فخرج ليتمشى قليلاً هو وبعض زملائه، لكن أحد المتمردين كان مختبئاً وأطلق عليهم (زفات) من الرصاص فقتلت بعضهم، وظل التلاميذ الصغار يصرخون طوال الليل خوفاً كما ظل هو يترقب توقف الرصاص ليخرج (ليتبول) فقط، وأخيراً توقف الرصاص لفترة طويلة نسبياً، فقرر الخروج والاختباء خلف شجرة (للتبول)، ولكن الرصاص دوى بالقرب منه، ولحسن الحظ أن ذلك المتمرد منعه الظلام من أن يشاهده فانسحب، فقال لي إنه منذ تلك اللحظة سكنه رعب شديد وأصبح تبوله يحدث فرقعة على الأرض كأنه دوي الرصاص ويتخيل (بوله) كأنه مدفع رشاش لأنه يحدث صوتاً كصوت الرصاص. وكان المطلوب منهم الصمود من الصباح ليأتي الجيش وينقذهم، قال لي إن أكثر ما حيره أن نزول (بوله) على الأرض يحدث صوتاً كأنه فرقعة الرصاص، وظل على هذه الحالة من الرعب لا يستطيع أن ينام أو يتحرك أو يشرب نقطة ماء حتى الصباح، وقال لي منذ تلك اللحظة إنني أصبت بمرض السكري من شدة الرعب، وبالفعل عندما ذهب للمدينة وفحص تأكد أنه مصاب بالسكري، وظل معه حتى قابلته بالمدرسة، لقد كنت أعجب لشاب في أوائل الثلاثينيات ومع ذلك يصاب بمرض لا يصيب إلا الشيوخ، حكى لي هذه القصة والقصة لم تكتمل لأنه بعد شهور قلائل تضاعف عليه المرض واشتد حتى أدخله في غيبوبة لعدة أيام، ثم رحل عن دنيانا الفانية بسبب التمرد والقتل العشوائي بلا قضية سوى أن الأوروبيين يريدون ذلك، وأقول لهم ماذا فعل لكم “عبد الرحمن” المُدرس المسكين الذي جاء ليدرس التلاميذ حتى تقتلوه؟!
القصة الثانية من مآسي الحرب في الجنوب بطلها جندي في القوات المسلحة، استطاع أن يوفر مبلغاً جيداً مكنه من الزواج، وحصل على إجازة لمدة شهرين يتزوج خلالها، وجاء ليخطب فتاة من جيراننا واكتملت الأفراح، وفي اليوم الثالث من حفل عرسه جاءه إشعار بالانتقال لمناطق العمليات دون أن يراعى أنه عريس، فما كان منه إلا أن يلبي النداء وتوجه لمناطق العمليات وظنها رحلة مثل باقي الرحلات السابقة، لكنها كانت رحلة النهاية لقد وصل إلى مناطق العمليات لحظة وقوع معركة كبيرة، فأصابته رصاصة طائشة قتلته في اليوم الأول لوصوله وهو عريس في اليوم الثالث، وعندما جاءت برقية لزوجته ظنته يبشرها بالحضور، فإذا بالبرقية تحمل لها نبأ استشهاده وتحول العرس إلى مأتم وذهب الشاب مبكياً على شبابه. لقد ظن هذا الشاب أن العملية ستنتهي كما كانت تنتهي كل مرة، وآثرت “أوروبا” تمول الحرب العقيمة التي انتهت إلى لا شيء، وظلت تحرضهم على الانفصال وهي تعلم أن بلدهم لا تحمل مواصفات دولة ولن تستطيع العيش بعيداً عن الشمال، لقد دمروا الشمال والجنوب معاً من أجل اللا قضية حتى العقلاء الجنوبيين لم يستمع إليهم أحد، فقتل الآلاف دون ذنب وقتلت آلاف الأبقار وانتشرت الأوبئة لأن الفرق الطبية لم تعد تتجول وماتت آلاف الماشية وفرح الأوروبيون وصفقوا لأن الموت بعيد عنهم؟!