رأي

السكة الحديد تاريخ نضال منذ الاستعمار

يتساءل الناس عن السر في التوتر المستمر بين عمال السكة الحديد والحكومات المختلفة ويحاولون أن يجدوا تغييراً في الماضي ولكنهم لا يجدون بدايات حقيقية لهذا التوتر وقد كان النضال ضد الاستعمار مرتبطاً بأي مقاومة للاستعمار بأي شكل من الأشكال وكان يتعرض للتناقض بين عمال السكة حديد وبين الإدارة البريطانية على أساس أنها من الأمور العادية في كل مراحل النضال.
وعندما جاء الاستقلال وأصبح الحكم وطنياً شعر العمال أن الوطن كله بحاجة لخدماتهم ولم تكن هناك وسيلة مواصلات واحدة تربط كل السودان ببعضه البعض غير السكة حديد لدرجة أن الأدب الشعبي امتلأ بأبيات تتحدث عن السفر ومشاكله ولا تذكر وسيلة مواصلات أخرى غير السكة حديد لأنه لم تكن هناك وسيلة مواصلات سفرية أخرى واعتاد الناس أن يكون السفر بالقطار والمشكلة أنه منذ الاستقلال تولت القيادات اليسارية من الجبهة المعادية للاستعمار الأمور القيادية للسكة حديد وكانت تعلم أن حالة البلد لا تحتمل أي تعطيل في المواصلات لهذا حرصوا على انسياب العمل رغم وجود بعض المطالب واستمر الحال كذلك إلى أن وقع الصدام بين نظام “نميري” وهو صدام عنيف دموي شرس بعد فشل الانقلاب الشيوعي.
في تلك الفترة أسفر الشيوعيون عن وجههم الحقيقي وأقسموا أنهم لن يتركوا النظام المايوي يرتاح دقيقة وهكذا انتقل النضال لمرحلة المواجهة الصريحة، الشيوعيون لا يخفون هدفهم ورغبتهم في إسقاط النظام رغم تعطيل العمل في السكة حديد والحكومة لم تستسلم فقد بدأ “نميري” برنامج عسكرة الوظائف الحساسة ومنذ ذلك الوقت بدأ صراع صامت بين الجانبين أحيانا تنتصر الحكومة وتجهض الإضرابات وأحياناً ينتصر الجانب الآخر بسريان قرار الإضراب.
وقد كانت الحاجة تشتد إلى السكة حديد في الخريف بالذات لأنه لم تكن هناك طرق برية وكان تعطل السفريات يؤخر حتى وصول القمح إلى الخرطوم.
ويختفي القمح فيعود الناس للكسرة وقد انتشرت النكات في تلك الفترة مثل ذلك الكاركتير الذي يصور امرأة عجوز تبيع الكسرة والناس يقفون صفاً أمامها وهي تقول لهم (ما قلنا ليكم باكر بجئ الخريف واللواري بنقيف وبكترن علينا التعاريف) مما يشير إلى أهمية السكة حديد وأنه ليس لها بديل ومنذ منتصف السبعينيات أصبح الوزير القوي هو من يضمن انسياب العمل في السكة حديد دون مشاكل ولو بتقديم بعض التنازلات وقد وصلت الأمور إلى مرحلة أن أي انقلاب لكي ينجح لابد أن يضمن ولاء السكة حديد، واستمر “نميري” بمحاولات ومداورته مع نقابة السكة حديد إلى أن قامت مظاهرات الطلاب في أوائل السبعينيات وفيها أصر اليسار على إسقاط النظام المايوي مستعيناً بعمال السكة حديد وأعد خططه على أساس توقف العمل تماماً في السكة حديد وأذكر أننا طلاب الجامعات قد حاولنا إدخال عمال السكة حديد في إضراب شامل لتعطيل العمل نهائياً لأنه كان الوسيلة الوحيدة لإسقاط النظام المايوي.. وأذكر أننا تحركنا في مظاهرة من المحطة الوسطى الخرطوم وعددها لا يتجاوز المائتين ونحن نهتف (عاش كفاح الطبقة العاملة) وفي تلك المظاهرة اتجهنا إلى السكة حديد لنجبر العمال على المشاركة في الإضراب لأننا اعتبرنا تعطل العمل في الخرطوم يعطله في السودان، ولكن قوات الأمن استعدت جيداً وجربت معنا (قنابل الغاز) التي تطلق من فوهة بندقية فكانوا يضربوننا وهم على مسافة بعيدة بل إن الدخان الكثيف يمنعنا حتى الحركة، وأذكر أننا عندما اقتربنا من بوابة السكة حديد الخرطوم كان هناك من يشجعنا ويقول لنا إن عمال السكة حديد قد دخلوا في إضراب مفتوح حتى سقوط النظام وفي ذلك اليوم أصدر “نميري” أمره بإغلاق الجامعات إلى أجل غير مسمى، ولما كنا في الصف الثالث نستعد للانتقال للصف الرابع ومتعجلين للتخرج لنعمل ونكسب المال. والقصة طويلة جداً نواصلها في عمود قادم إن شاء الله.
> سؤال غير خبيث:
هل استفاد الشيوعيون من السكة حديد أم العكس هو الذي حدث؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية