الأقزام و(البعيوات).. قصص الزواج والأولاد (الطوال) !!
يتمتع (الأقزام) بسعة صدر وسرعة بديهة منقطعة النظير، استشفتها (المجهر) من خلال دردشة خفيفة الظل رشيقة التفاصيل، وهم لا ينفكون طيلة الجلسة من التراشق بالكلمات وثمة سخرية محببة ومهضومة تتداولتها ألسنتهم، على أن صحبتهم وجمعهم يشي بمحبة وود قل أن يوجد في بقية المجتمعات الصغيرة، الأمر الذي جعلهم يسخّرون كل تلك الصفات والإمكانات في دفع مسيرة حياتهم المترعة بالتفاؤل وهم يضعونها في نصابهم مستفيدين من إعاقتهم كأقزام حباهم الله بخفة الروح والجسد إلى جانب الموهبة الجماعية، فكونوا لأنفسهم جمعية ومنظمة وفرقة مسرحية وغنائية، يجوبون بها عدداً من المؤسسات حسب الطلب، ليس ذلك فحسب بل إن بعضهم نزع للعمل اليدوي والفنون، ومع كل ذلك لم يركنوا للموهبة كمصدر دخل لهم، فعدد مقدر منهم سيما الرجال لديهم مصادر دخل ترضي طموحاتهم على قلتها.
(المجهر) وذات نهار قائظ التقتهم بـ(مركز شباب بحري)، المقر الذي يجمعهم أسبوعياً ليتداولوا ويناقشوا شؤونهم العامة، أما الخاصة فعروة وثقى تربط بينهم يعززونها بالزيارات المنزلية الخاصة.
اتحاد المرأة القزمة
بعد سماعنا لحديثهم الجماعي، عرجنا للحديث إليهم كل على حدا بغية التعرف عليهم أكثر، ورغم أن الحديث يوجه لهم فرادى إلا أنهم وبحكم الترابط اللصيق بينهم، فإنهم وبرشاقة لا تخلو من مناكفات تتشابك مفرداتهم كل ينصب نفسه لسان حال غيره ما ينم عن معرفتهم لخبايا بعضهم، وفي هذه الحالة تنشب معركة لفظية لا تخلو من ضربات خفيفة.
ابتدرنا حديثنا مع مسؤول الجمعية “فتحية عبد الله بدر” والتي قالت إنهم اتحاد غير منظم وحالياً منضوين تحت اتحاد المعاقين حركياً، وعددهم على مستوى ولاية الخرطوم أكثر من (230) بخلاف الذين لا ينتمون للجمعية أو من بالولايات، ثم زادت بقولها إننا كأقزام متحدين وندير أمورنا بصورة مرتبة لدينا فرقة غنائية وأخرى مسرحية ورياضية، ومن خلالها نقدم عروضاً في الأندية والجامعات بحسب الطلب سواء أكانت مناسبات سياسية أو ثقافية تدرج جميعها تحت اسم (فرقة الأقزام والبعيوات)، ليس ذلك فحسب فلدينا أيضاً (اتحاد المرأة القزمة) نقوم خلاله بعدد من النشاطات والأعمال اليديوية كـ(التطريز) و(الخرز) وغيرهما، كما أن هناك عضوات متميزات وموهوبات يعملن بنقش الحناء.
قصة زواج قزمين
كذلك وبحسب “فتحية” فإنهم يلتقون مرتين في الأسبوع يناقشون فيها كل مشاكل الجمعية، فضلاً عن زيارات اجتماعية لاستقطاب أعضاء جدد.
وعلى الصعيد الشخصي فـ”فتحية ” متزوجة من قزم يدعى “سرور دليل” وأنجبت منه طفلين (طوال)، ثم وبطريقة دراماتيكية طفقت تقص أول لقاء بينهما وبدارجة لطيفة قالت: (طبعاً هو برقص نقارة ويوم كنت بحضر في العرض بتاعو، الجماعة قالوا ليهو ديك بعيوة بتعاين ليك طوالي جاني يهز في كتيفو وشايل عصايتو، أها طوالي أنا تاني يوم رسلت ليهو الرقم مع واحد)، ومستدركة زادت وثمة نبرة خجل في قولها:(والله قصدي بس ينضم للجمعية وطوالي اتصل عليّ عشان أوصف ليهو مكان المنظمة ومن ديك وعيك).
لم تمنعها إعاقتها كقزمة من مواصلة دراستها إلى أن حصلت على الشهادة السودانية ومنعها الزواج والإنجاب من التعليم الجامعي، لكنها درست الحاسوب وكذا التمريض، والآن تدّرس برياض الأطفال ومحو أمية الكبار، يعمل زوجها بالسوق، وقالت لـ(المجهر) إنها تعاني من مشكلة السكن حيث تقيم مع أهلها. وأضافت “فتحية ” مازحة (ياخي البيت تملأ أقزام خاصة لما تجي علينا “قسمة” أختي وزوجها بنشكل منظمة عديييل).
أقصر قزم في السودان
وكانت “قسمة عبد الله” شقيقة “فتحية” بين الحضور، حيث أن الاثنتين وشقيقهما “قسم السيد” أقزام من والدين طويلين، وفوق كل ذلك فإن “قسمة” وبالإجماع كانت متزوجة من أقصر قزم في السودان وطوله (65) سم تقريباً وأسمه “هيثم فتح الرحمن”، لكنه توفى بعد أنجبت منه بنتاً بعيوة، ثم تزوجت مرة أخرى من قزم عامل.
غير أن ألطف الأقزام و(البعيوات) ممن دردشت معهم (المجهر) هو “خالد عبد القادر سليمان” والذي ما انفك يناكف زملاءه كلما هم أحدهم بالحديث، وعليه يخرج الحديث عن مساره وبالكاد نلملم خيوطه، و”خالد ” هو فنان المجموعة بالتركيز على أغنيات الحقيبة والغناء الشعبي، ولا يغني في المناسبات الخاصة، وهنا قاطعه زملاؤه: البشوفو منو في الحفلات دي؟
نكاية في أهله الذين اعتبروه صغيراً لا يرقى لمرحلة الزواج وهم يقسونه بطوله وليس عمره، تزوج “خالد” من ثلاث سيدات وكمان “طوال” طلق اثنتين منهما وأبقى على الثالثة وأنجب منهن بنتين قزمتين.
قزم “مسكول”
دائماً ما يوصف أشقاؤنا الجنوبيون بـ(الأبنوس) لطول واستقامة عودهم، وعلى ما يبدو أن “جيمس” انسرب من بين جذور الوصف وكادت هامته أن تحاذي الأرض لقصره المفرط، وبروح رياضية وعربية طلقة تحدث إلينا غير مبالٍ بمهاترات رفقائه وصحبه وهم يرشقونه بكلماتهم عندما تحدث عن زيجته من امرأة طويلة وأنجب منها ولداً طويلاً، فكالوا إليه المداخلات عن طقوس زواجهم المحتشدة بـ(البقر) وأنه ووفقاً لحجمه فإن نصيبه منها لم يتجاوز (العجل) لأنه عبارة عن (مسكول) بحد قفشاتهم.
لعل حميمية العلاقة بين “جيمس” وزملائه وكذا المجتمع السوداني الذي ألفه وهو يلتقيه في كثير من المواقع ترجع لمولده ونشأته بين ظهرانيهم، فهو من مواليد مدينة “عطبرة” نشأ وترعرع متنقلاً بينها والخرطوم، لم يزر موطنه الأصلي سوى مرة واحدة بعد الانفصال، وعن تفاصيل الزيارة هذه سيما أنها في بلد يتسم أهلها بالطول، قال بظرف: (ياخ أنا في زيارتي دي مشيت السوق الجماعة كلهم اتلموا فيني مستغربين في شكلي الله ده أنقذني منهم). حالياً يعمل فني صيانة أجهزة ومن ريعها يرعى أهله في مدينة “ربك”.
يقود الركشة واقفاً
درس “إبراهيم آدم إبراهيم” حتى مرحلة الأساس، وبحد تعبيره فإنه كان مشاغباً للغاية، والآن يعمل (كمسنجي)، سألته إذا كان يستطيع الصعود للمركبة بيسر وما أن كان قصره يعرقل عليه (الوثوب) للمركبة، فقال إنه لا يجد صعوبة البتة يقفز وينزل بسهولة، وفوق ذلك فهو فنان يحيي الحفلات بالأغاني الشبابية، غير متزوج وينوي الزواج من طويلة.
وبابتسامة ملازمة لا تفارق شفتيه، الأمر الذي وضعه محل تندر من زملائه وهم يطلبون منه (عدم التبسم)، اقترب إلى مجلسي وثمة خجل يتبدى على “حسن عابدين” وهو سائق (ركشة) أو (جوكي) إن صح التعبير، وقبل الخوض معه في الدردشة سألناها إن كان يقود (الركشة) واقفاً أم جالساً لقصره الشديد، فتناول الحديث منه “خالد” وقال متهكماً: (ياخ ده ما عليه إلا يخت كريعاتو في الميزان ويبقى مارق)، وأضاف “حسن ” أن هذه المهنة تسد حاجته من المصاريف، يسكن “الجرافة” بأم درمان ويركب المواصلات عادي بدون أن يدفع لأن لديه بطاقة.
وعلى الصعيد الخاص “حسن” غير متزوج بحجة أنه (ما لقى عروس) ويحبذها (بعيوة).
الفرق بين (البعيو) والقزم
يبدو “مهند علي عمر” أكبر حجماً وصنّف نفسه بأنه (بعيو) وليس قزماً، وشرع بمشاركة “فتحية ” في توضيح الفرق بن الاثنين، والذي يكمن في الأطراف والأصابع والساعد، كما أن (القزم) أحد أعضائه تكون متقزمة وبها خلل، بينما (البعيو) قصير وأطرافه مكتملة وبحسبه فإن مهند (بعيو).
درس “مهند” حتى المرحلة الثانوية ويعمل حالياً في السوق، متزوج من زميلته القزمة “شادية”، وكان قد سبق لها الزواج من رجل طويل وهي بعد في الثانية عشرة من عمرها، أنجبت منه ولدين أحدهما طويل والثاني قصير، ومن “مهند” أنجبت قزماً توفاه الله والآن حبلى بآخر، وهي ربة منزل، وقالت “شادية” لـ(المجهر) إن والدها طويل جداً ووحدها (القزمة) في أسرتها.
قائد الفرقة يتقدم بالشكر
رئيس الفرقة وقائدها “حسين حسن الماحي” يجيد كل ضروب الفن من غناء و(منلوج) و(إسكتشات)، وعن عملية التأليف والإخراج والسيناريو قال إن كل ذلك يقومون به وحدهم ويخضعون لعدد من (البروفات) قبل العرض.
ويعمل “حسين” في بيع الخضار منذ فترة طويلة بسوق بحري، ولم ينس أن يبعث بشكره لعدد من الجهات كونها سهلت مهمته بقوله: بشكر ناس النظام العام والصحة ما قاعدين يقصروا معانا ويتدخلوا في شغلنا كمان بساعدونا، وأشكر ضابط الصحة وأشكر ناس الكشة (زاتم) ما قاعدين يكشوني، وأتمنى من البقية أن يحذو حذوهم.
“حسين” متزوج مرتين الأولى طويلة أنجب منها ولداً طويلاً والثانية من زميلته القزمة الجامعية “عرفة” التي التقاها في المنظمة وتزوج بها منذ أكثر من أحد عشر عاماً.
شنكل وقناية
ثم عاد الأقزام إلى جديتهم وهم يلخصون بعض الإشكالات التي تواجههم، أهمها أن هناك عدداً من المنظمات تعمل باسمهم مثل (منظمة أصدقاء الأقزام) و(منظمة العون المباشر لقصار القامة) و(المنظمة السودانية لرعاية الأقزام والبعيوات)، وأكدوا جميعاً بأن ليست لهم علاقة بتلك المنظمات وغير مستفيدين من الدعم الذي تتحصل عليه، ولفتوا إلى أن لديهم القدرة على إدارة شؤونهم وأعمالهم بأنفسهم.
وعلى الصعيد العملي، فإن (الأقزام) يتقنون الأعمال كافة ولا يقف دونهم معوق، فقد أجمع البعض على (تركيب الستائر) وقال أحدهم: نحن بنعمل أي حاجة إلا تركيب الستائر، فيما خالفهم البعض بأنهم يلجأون لبعض الحيل التي تساعدهم في رفعها مستعينين بـ(شنكل وقناية).