موسيقى وبس!!
أمس الأول كنا نحلق في عوالم الموسيقى السودانية، بدأناها ود. “الماحي سليمان” أستاذ الموسيقى والملحن المعروف، يصاحبه عوده الذي حينما يعمل ريشته في الأوتار تتدفق شلالات من الأنغام الشجية.. وحقاً كما قال، فالموسيقى هي اللغة الإنسانية الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمان.. محاضرته كانت في نهارية المنتدى الراتب الذي ينعقد بمقر الاتحاد القومي للأدباء والكُتّاب السودانيين ببيت المال عصر كل (ثلاثاء) بقاعة الراحل المقيم (الطيب صالح).. والموسيقى هي تقليد الإنسان لما يسمعه من أصوات الطبيعة، أفادنا بالثراء النغمي الذي يتميز به السودان، وحدثنا عن التذوق للموسيقى وارتباطه بالإنسان وبالمحيط الذي يعيش فيه، وحدثنا عن عائلة الآلات الموسيقية وكيف أن السودان كان بقدوره أن يبهر العالم بموسيقانا الشعبية إن عزفناها بآلاتنا الشعبية.. وعندما أتاحت المنصة الفرصة للحضور للإدلاء بمداخلاتهم تقدم الأستاذ “عادل خالد الماحي” وقال أنا أستأذنكم لأغني لكم أغنية، وأنا هاوٍ للغناء ولا أطمع أن أكون مغنياً في يوم من الأيام، لكنني أحب الغناء.. وبدأ غناءه همساً في استحياء ثم أطلق عقيرته مغنياً: (لم يكن إلا لقاءً وافترقنا.. كالفراشات على نار الهوى، طفنا عليها واحترقنا.. كان طيفاً وخيالاً ورؤى.. ثم ودعنا الأماني وأفقنا.. بالذي أودع في عينيك إلهاماً وشعرا.. بالذي أبدع فيك الحسن إلهاماً وطهرا.. لا تدعني للأسى يدفعني مداً وجزرا.. أثقلت كفي الضراعات.. وما أقبل عذرا).. والنص الشعري طويل.. كتبه شاعر سوداني مهاجر نظمه وكان وقتها طالباً بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي، والعبقري “وردي” وقتها كان في نضارة الصبا يتدفق إبداعاً، قابل صديق الشاعر “جيلي عبد المنعم” وأخذ منه النص الرائع ليعكف على لحنه لأكثر من شهر.. لاحظوا توافق اللحن مع النص الشعري، وهذه عبقرية المؤلف الموسيقي للغناء حينما يستوعب الأبعاد النفسية للنص الشعري، ولا أظن أن أحداً من أهل السودان لا يطرب لهذه الأغنية.. والسؤال: لماذا تراجعت موسيقانا أغانينا فصارت لا تحدث هزة الطرب والإمتاع؟ بل أين أنت أستاذ “جيلي عبد المنعم”؟؟ قطعاً أنت شاعر عظيم ومجيد طالما كتبت: لم يكن إلا لقاءً وافترقنا!! بالله شوف هذا الرجل كيف يكتب الشعر: وعيوني ظامئات بالهوى من مقلتيه!!
ومن بيت المال مشينا أمسية أخرى للموسيقى، كانت بمركز شباب أم درمان، عرض موسيقي ومحاضرة رائعة قدمها المايسترو الرائد (م) “علي يعقوب”، والرجل عازف بارع لآلة النفخ (الترامبيت) وأحد أعضاء فرقة الرائع صديقي الفنان “شرحبيل أحمد”.. و”يعقوب” أستاذ للموسيقى، ومفتون بالتوثيق لها وله كتاب وثائقي مهم يعد مرجعاً في الموسيقات العسكرية، حدثنا ليلتها أن السودان عرف الموسيقى قبيل مطلع القرن التاسع عشر إبان فترة الحكم الثنائي، وكانت تتبع لقوة دفاع السودان، تأسست على أيدي موسيقيين إنجليز وهنالك موسيقيون مصريون، وعلى أيدي الإنجليز تعلم نفر من الشباب السوداني العزف على الآلات الموسيقية وقراءة النوتة الموسيقية، وانخرط في ذلك عدد من أبناء النوبة والنيل الأزرق وأعالي النيل، ومن هؤلاء “جابر موسى ستين”، والموسيقار الكبير “موسى محمد إبراهيم” أمد الله في عمره، الذي من مؤلفاته الموسيقية رائعة المرحوم أستاذنا “الجيلي محمد صالح” (ماضي الذكريات) التي صدح بها فناننا المتميز بروفيسور “عثمان مصطفى”.. وبرغم حاجز اللغة بين المعلمين والتلاميذ إلا أن الموسيقي لها لغتها التي يفهمها كل الناس.. فكانت المارشات السودانية المعروفة بالجلالة والشهادة التي اعتمدت إيقاعات أهل السودان، إيقاع النوبة والأغنيات الشعبية.. وصدحت الموسيقى من على خشبة مسرح شباب أم درمان، وامتلأت أرواحنا طرباً ورقصنا شيباً وشباباً، وسرى النغم السوداني فينا، د. “الماحي”، الموسيقي “كامل حسين”، بروفيسور “الفاتح الطاهر دياب” الذي تم تكريمه من قبل مركز الفنان (عماد كنانة) لتعليم الموسيقى..
وردد الحضور: (ود الشريف رايو كمل.. جيبو لي شلايتو من دار قبل.. وحبابو البشفع لينا.. والسلام من الإمام للنبي جدو النبي والنبي طالب الذكر وفقرا شيلو جلالة.. وفاطمة بت النبي نور أبوك زي القمر).
والله العظيم موسيقانا غنية وجميلة ومتفردة ومتنوعة.. فقط نحتاج إلى الاحتفاء بها وتوثيقها وجعلها تسير بين الناس.