أرض للبيع..!
حتى وقت قريب كانت الأرض تمثل قيمة خاصة وعالية لدى إنسان السودان الذي ارتبط بأرضه وتعلق بترابها، فكانت هي البيت الذي يأويه والحقل الذي يزرعه ليأكل منه.. ومن ثم فهو لا يفرط فيها أبداً وتظل هكذا محفوظة مصونة تتوارثها الأجيال وتفاخر بانتمائها إلى رقعتها التي تنسب إليه وينسب إليها، فنقول (أرض فلان) في إشارة إلى انتمائه وقبيلته ومكانته!
و(الأرض) في الموروث الأدبي والفني السوداني تمثل قيمة جوهرية تعادل (الانتماء) للجذور، وتعبر عن (الوطنية)، وتأتي مرادفة للحقول والشرف.. حيث الحفاظ على (الأرض) و(العرض) متلازمان باعتبارهما رمزاً للهوية وعنواناً للحرية واعترافاً بالمواطنة الكاملة، والنماذج في هذا الصدد كثيرة ظلت تقدمها العديد من الكتابات الأدبية والأعمال الفنية على اختلاف قوالبها.. وفي روايات “الطيب صالح” مثلاً نستشعر هذه الروح المخلصة والوفية للأرض، وكيف أن الإنسان السوداني في قريته أو مدينته يدافع عن أرضه حتى الموت ويرفض بيعها أو استبدالها أو احتلال الأجنبي لها، لأنها تحمل اسمه وحقه في الانتماء للوطن.
وحتى وقت قريب أيضاً كان الذي يرهن أو يبيع أرضه أو بيته يفعل ذلك (سراً) خوفاً من (الفضيحة)، لأن الذين من حوله سيمنعونه من ذلك، ولو عرفوا لاحقاً بالأمر فإنهم وبمقدار ما سيشفقون على أحواله السيئة والضاغطة التي قادته للتفريط في أرضه أو بيته، سيلومونه ويعاتبونه على ما ارتكبه من ظلم في حق نفسه وأهله.. فالمسألة عندهم أقرب إلى بيع الإنسان لنفسه وأهله!!
لكن هذه النظرة المثالية تغيرت كثيراً في السنوات الأخيرة.. وأصبح بيع وشراء الأراضي والمنازل تجارة قائمة بذاتها و(بيزنس) مريح، ولا يحتاج إلى رأس مال سوى القليل من (الشطارة) والكثير من العلاقات العامة الجيدة بالأراضي وأصحابها.. والناس الآن لا ترى في بيع ما تملكه (فضيحة)، بل نوعاً من الحراك الاجتماعي والاقتصادي الذي يبحث عن الأفضل من حيث المساحة والموقع والبناء المعماري والتركيبة الطبقية، وغيرها من مفاهيم، روجت لها التحولات السريعة التي حدثت في العاصمة الخرطوم، وما شهدته من توسع (أفقي ورأسي) جعلها تتوغل وتتمدد حتى مشارف الولايات المحيطة بها.. وكلها يعد (سنتر الخرطوم) وليس (الأطراف) كما كان سائداً فيما قبل.. فالطرق والجسور والتوزيع المفرط للأراضي والهجمة السكانية المرتدة جعلت الخرطوم مثل (كرش الفيل)، وحولت تركيبتها الاجتماعية إلى (لحم رأس)، وانكسر طوق الأحياء القديمة التي كانت تضم الأهل والأقارب فقط، وأصبحت أحياء جديدة منفتحة على الوافدين من خارجها، حيث بورصة بيع وشراء الأراضي والمنازل كفيلة بترسيخ هذه (العولمة) الخرطومية، ومؤهلة لأن تطوي وجه العاصمة القديم بموروثه ومعالمه ورموزه التي ما عادت (أثراً) بعد (عين) بل أصبحت في خبر (كان)!!
الحكومة بدورها دخلت بقوة إلى هذا (البيزنس) وتجاوزت صلاحياتها في منح (الخطط الإسكانية) إلى عقد المزادات لبيع الأراضي الاستثمارية.. ومن يطالع الصحف اليومية سيفاجأ بالكم الهائل للمزادات التي تعلن عنها وزارة التخطيط العمراني وبشكل مستمر وراتب.. ولا نعرف ما المبرر لهذا البيع الماراثوني وما مسوغاته القانونية؟! وهل خزانة الدولة وصلت إلى هذه الحاجة الماسة التي تضطرها لبيع ما تبقى من أراضٍ في الخرطوم التي تؤكد الإحصاءات أنها وبهذا التوجه اللافت نحو بيعها لن يبقى منها في المستقبل القريب على ذمة الحكومة قطعة أرض واحدة؟! ألم يكن من الأجدر أن ترفد الحكومة خزانتها بالسيولة التي تأتي من خلال تطوير حركة الإنتاج في الزراعة والنفط وغيرهما من موارد تكرس لنمو خططها التنموية المستدامة وتعزز لنهضة اقتصادية حقيقية وجادة، بدلاً عن اللجوء إلى المتاجرة في الأراضي واستسهال عملية البيع والتفريط في هذه الثروة القومية، التي من واجب الدولة الحفاظ عليها ومنحها بشكل راشد ومعقول ومنطقي لمن يستحقونها بالفعل من المواطنين وضمن خطط إسكانية تتسم بالشفافية ومراعاة الحاجة الفعلية، وليس من خلال إبرام صفقات البيع والشراء لمن يملك أكثر ويدفع أكثر؟!
ماذا أبقت الحكومة للحكومة المقبلة من أراضٍ كي تمنحها لمن يستحقون من المواطنين؟! وماذا تركت من أراضٍ من حق الأجيال القادمة أن ينالوا حظهم منها لكي يشعروا أنهم مواطنون سودانيون بالفعل وملزمون بالدفاع عن أراضيهم وحدودهم السودانية؟!!