(إنقاذ 1989) و(إنقاذ 2014).. ماذا تبقى من الانقلاب؟!
جاء انقلاب الإنقاذ 1989م يحمل أيديولوجيا سياسية ومذهبية تجسد تطلعات المشروع الحضاري والرهان على الدولة الإسلامية من خلال منهج غليظ لا يعرف الاعتدال والمرونة. وكان قادة الإنقاذ في السنوات الأولى للحكم يتدفقون حيوية ونشاطاً على طريق تحويل البلاد إلى قلعة دينية على شاكلة الإسلام الدوغمائي، وكانوا يحاربون قوى المعارضة التي ظهرت في ذلك الوقت بلا هوادة رافضين أي شكل من أشكال التذمر والاحتجاج.
دلالات الزهو بالسلطة والتركيز على الحسم والقوة كانت هائمة في تلك الأجواء، حيث قامت الإنقاذ بتطبيق الاعتقالات الجماعية، وفصلت عشرات الآلاف من المناوئين من وظائفهم، وفرضت على الجمهور أطول نظام حظر تجول في العالم.
بقدر ما كانت الإنقاذ بارعة وقوية وحاسمة في تثبيت منهج الأصولية الدينية إلى مستوى الأجندة التي ظهرت كالنقش في الحجر خلال بداية الحكم، فإنها بذات القدر كانت مدهشة ومحيرة في الانقلاب الجذري على تلك الأوضاع والسياسات، في خطوة تنم عن الذهول والاستغراب وتخطف الألباب والأبصار!!
كان أعضاء مجلس الانقلاب نجوماً لامعة أمثال “صلاح كرار” و”سليمان محمد سليمان” لكن سرعان ما ذهبوا إلى الظل وعالم النسيان حتى تعذر عليهم مقابلة دهاقنة السلطة، وصاروا يطلبون الأريحية والاعتبار من حواف النظام. وعلى ذات المنوال كان مصير اللواء (م) “يونس محمود” صاحب الحنجرة الإنقاذية المعروفة، وقد صار صار كاتباً في إحدى الصحف السيارة.. أما على صعيد ملف الجنوب، فقد تركت الإنقاذ التمسك بالرؤية الدينية على طابع الحرب وقبلت التعامل بمنهج الرؤية السياسية البراغماتية التي أدت في نهاية المطاف إلى إنهاء حرب الجنوب عن طريق الشركاء الأوروبيين من خلال اتفاقية (نيفاشا) التي فصلت الجنوب.
كانت استدارة الإنقاذ بالغة الأهمية سجلت على دفتر التاريخ المعاصر عندما انقلبت على عراب النظام الدكتور “حسن الترابي”، فكانت أحاديث المجالس تتأطر عن القاعدة المقلوبة التي تجعل الأبناء ينقلبون على الآباء ومرجعيتهم.
وأيضاً كانت الحزبية في بداية الإنقاذ منطقة محرمة وكيانات مرفوضة في قاموس الحكام الجدد، لكن رويداً رويداً عادت الأحزاب السياسية القديمة من جديد، بل تحولت جماعة الإنقاذ إلى حزب سياسي أطلق عليه (المؤتمر الوطني)، والشاهد عندما امتنعت الأحزاب التاريخية الكبيرة عن التعامل مع الإنقاذ، كانت النتيجة استخراج صور ضوئية من تلك الأحزاب الكبيرة على الساحة يومذاك، حيث ظهر “مبارك الفاضل” و”عبد الله مسار”، ثم “جلال الدقير” و”أحمد بلال”، وقبل ذلك الدكتور “النور جادين”.
هكذا قطعت الإنقاذ من 1989 إلى 2014م طريقاً طويلاً على حبائل المواجهات والمصادمات والحروب والمناورات والمراجعة الداخلية، ومحاولة ملامسة إيقاعات الألفية الثالثة وعصر اكتشافات الفضاء.. ومن هنا أخذت العلاقة مع الغرب وأمريكا طابعاً مختلفاً عن منهج السنوات الأولى، بل إن المؤتمر الوطني حزب الإنقاذ لم يعد كتلة صماء من العضوية الإخوانية المنغلقة، وسادت أصوات المحاججة وعلامات التململ والاحتجاجات والخروج من الأسوار إلى الهواء الطلق.
لم تعد الإنقاذ تعشق الانكباب على السلطة وحدها، بل ظلت تحاول دعوة الكثيرين للمشاركة بشغف أصيل في قطارها من أحزاب اليمين واليسار، فهنالك التفاهمات المستمرة مع الإمام “الصادق”، وإيقاعات المفاجأة المذهلة مع الدكتور “الترابي” في الفصل الجديد، وقبل ذلك ظفرت الإنقاذ بمشاركة مولانا “محمد عثمان الميرغني” في السلطة من باب خدمة الوطن والمواطن.. وفي الإطار، من كان يصدق أن الأستاذ “علي عثمان” والدكتور “نافع علي نافع” والوجوه القديمة يمكن أن ينزلوا من الدرج الأعلى في الحكومة حتى لو كانت لهم أدوار مختلفة!! بل من كان يتوقع أن يقوم الرئيس “البشير” بإطلاق مبادرة المائدة المستديرة الماثلة للعيان المستهدفة لجميع القوى السياسية السودانية بما فيها الحركات المسلحة.. فالشاهد أن الإنقاذ تبدلت إلى حالة معقولة، ربما تكون دون طموحات الكثيرين، والواضح أن عواقب التطرف والشطط تتعدى الفكر والسياسة إلى مناحي الحياة الأخرى.. فالشيء- كما تقول الحكمة- (إذا فات حده انقلب إلى ضده).
المحصلة تقول.. ماذا بقي من الانقلاب، فقد انجلت المعمعة الدعائية الحماسية للإنقاذ 1989م وجاءت لوازم التحوط والخوف من المجهول والتعقل في الإنقاذ 2014م وذلك بفضل صبر وحكمة جميع قطاعات السودانيين؟!