رأي

يوم جديد..!!

استقبلت “هادية” مكالمة من “بدوي” موظف الاستقبال: (أهلاً “بدوي”, صباح النور.. أيوه.. دفتر الحضور كالعادة) فرد عليها “بدوي”: (شكراً يا “هادية” الله يسترها معاك).. أمن زائر الشركة رافعاً يديه (آمين يا رب العالمين).. استغرب “بدوي” من تصرف الزائر فخاطبه قائلاً: (طيب يا سيد اتفضل أدخل, مكتبها الرابع على شمالك) شكره الزائر وفضل الانتظار في صالة الاستقبال, واصل “بدوي” حديثه التلفوني مع “هادية”: (“هادية” عندك معانا ضيف) فردت: (معقول من أول الصباح كده.. طيب خلي يتفضل).. أخبرها “بدوي” أن زائرها يفضل الانتظار في صالة الاستقبال.. حضرت “هادية” لتتفاجأ بوجود آخر شخص تتوقع رؤيته فصاحت: (منو؟.. أبوي.. جيت متين؟ أقصد وصلت البلد متين؟؟) نهض محيياً إياها تسبقه ابتسامته: (وصلت أمبارح المساء).. أحست مشاعر متضاربة في هذه اللحظة وهي حقيقة لم تكن مهيأة لها, وبعد السلام والتحية ذهبت معه إلى مكتبها.. حمل حقيبته الصغيرة الأنيقة وتبعها, جلس قبالتها معلقاً: (ما شاء الله باين عليك بتجي بدري, شايف مكتبك مليان معاملات).. فردت: (الحمد لله أنا أصلاً بجي المكتب بدري , بعدين طبيعة الشغل لأنها مع الجمهور بتفرض عليّ أكون هنا من بدري و..).. قاطعها قائلاً: (مش طبيعة الشغل.. دي طبيعتك إنتِ).. دخل “مرتضى” زميلها حاملاً بعض المستندات, عرفته على والدها, سلم عليه بحرارة وقبل أن يغادر سألها: (أطلب للحاج قهوة ولا شاي؟؟) فردت عليه: (يا سلام على الكرم الحاتمي, قهوة على الريحة لو سمحت).. رن هاتف والدها فانشغل بالرد عليه وأتجه إلى النافذة في حواره مع محدثه.. اختلست “هادية” النظر إليه وتساءلت: (يا ربي أبوي جاني ليه وأصلاً عرف مكان شغلي كيف؟؟).. ختم والدها محادثته وبدا كأنه سمع حديثها مع نفسها فقال: (طبعاً مستغربة من جيتي ليك).. كذبت قائلة: (أبداً.. أبداً أنا ما مستغربة) وواصلت: (هو الاستغراب ما في الجية, لكن السؤال إنتَ عرفتني شغالة هنا كيف؟؟) قال صادقاً: (أقر واعترف أني مقصر معاك لكن للظروف أحكام).. وشرد ببصره.. هي لم تره منذ أن طلق والدتها.. كانت حينها طفلة.. مرت سنوات طويلة وأحداث متباينة.. حقيقة كان المشوار جد طويل, كانت وأمها رفيقتين في هذه الرحلة القسرية, واكتفت والدتها بأن الحياة مع والدها قد انتهت، وهكذا لم تفتح هذا الموضوع مع أي إنسان.. أفاقت “هادية” من شرودها على صوت والدها, كان قد أكمل ارتشاف قهوته.. أخرج من حقيبته مظروفاً أبيض، بدا كأن به أوراقاً ومستندات سلمها أياه.. نظرت إليه متسائلة, رد عليها: (أنا اتغربت كتير, اشتغلت وعملت قروش كويسة, كويسة جداً.. صدقيني يا “هادية” أنا أبداً ما نسيت إنه عندي بت غالية عليّ لكن.. أقول ليك شنو؟؟) وسكت، ثم تابع: (يا ستي خلاص ما علينا.. الفات فات وتاني ما بيرجع.. المهم الورق العندك ده فيهو مستندات لي حاجات أنا سجلتها ليك باسمك.. أنا ما نسيت إنك بت واحدة من جهة الأم.. أنا صحي انفصلت عن والدتك واتزوجت وعندي أولاد وبنات عاشوا معاي وحاولت قدر الإمكان أوفر ليهم كل البقدر عليهو, لكن إنتِ كنتِ بعيدة مني وأنا بحاول بالجد أعوضك عن البعد ده بشيء بسيط أخصصه ليك.. ده ما معناه إني حاظلم زول منكم.. أبداً لا, كل واحد منكم نصيبه محفوظ في ثروتي.. أنا عايز أقيف مع كل واحد فيكم لحدي النهاية.. كل زول حسب حاجته وظروف حياته).. كانت تتطلع إليه في دهشة.. هي أصلاً لم تتوقع منه شيئاً خاصة بعد هذه الغيبة الطويلة.. امتلأت عيناها بالدموع, هي لا تعرف أية دموع هذه!! هل هي دموع حزن؟؟ دموع مَن تعب مِن مشوار طويل؟؟ دموع من استقبل غائباً فُقد الأمل في ظهوره من جديد؟؟ حقيقة هي لا تعرف.. نهض والدها من كرسيه وابتسم قائلاً: (شكراً على القهوة.. اشكري لي “مرتضى”).. أدخل يده في جيبه الخلفي, أخرج حافظة نقوده سلمها بطاقة عمل قائلاً: (ده الكرت بتاعي, فيهو كل تلفوناتي وإيميلي).. ودنا منها أكثر مواصلاً: (يمكن تحتاجي لي).. عندها أحسست بمزيج من الأحاسيس.. أمسك بيدها مودعاً: (حاقول ليك نفس دعوة زميلك.. الله يسترها معاك) قالها بعد أن ركز نظراته على وجهها, خُيل لها أنها رأت غلاله من الدموع في عينيه.. لا هي لم تتخيل، بل رأته يمسح دموعه عند الباب وهو مغادر مكتبها.. جلست “هادية” بطريقه آلية على كرسيها وهي لا تدري هل الأحداث التي مرت في الساعة الأخيرة من ساعات الصباح الأولى هذه حقيقة أم محض خيال؟؟ ولكنها لمحت المظروف الأبيض على مكتبها الأمر الذي يؤكد حقيقة ما وقع قبل قليل.. أعادها من شرودها صوت أحد العملاء.. بدأت في إجراء معاملاته، ورويداً رويداً حاولت أن تهدأ من مفاجأة هذا الصباح وإن أكثرت من التطلع إلى ساعتها، فهي إن خُيرت تريد العودة سريعاً إلى المنزل وإخبار أمها بكل ما حدث.. هي لا تدري كيف ستنقل لها ما حدث.. أخيراً انتهى يوم العمل, حتى رحلة العودة إلى المنزل بدت لها أطول من المعتاد، ذلك أن ذهنها كان مشغولاً في كيفية إخبار والدتها، فهي تعرف جيداً أنها لا تريد الحديث عن والدها أبداً، فمنذ أن انفصلت عنه فرضت جداراً صلداً من الصمت، وحتى جدتها لأمها وخالاتها لم تسمح لهن والدتها بالخوض في هذا الموضوع وقالتها لهن صراحةً: (من فضلكم أنا ما دايرة أي زول يفتح موضوع طلاقنا ده خالص.. ده موضوع خاص جداً وانتهى).. وفعلاً احترمن رأيها وسكتن.. وانكفأت هي على تربيتي.. حاولت أن تعوضني عن كل شيء.. أرادات بصدق أن تكون الأم وأن تغطي دور الأب, لم تذكر والدي أمامي لا بالخير ولا بالشر.. ورغم الإمكانيات المتواضعة والقليلة نجحت في أن تجعل مني طفلة سعيدة وطالبة مجتهدة، والآن موظفة ممتازة في أدائي.. قلة المال عندنا كانت وفرة من الحب والانتماء.. تعودنا أن نناقش كل ما يخصنا معاً بصراحة حتى وإن اختلفنا أحياناً, والآن السؤال صعب الإجابة (كيف حاكلم أمي؟؟ كيف؟؟).. دخلت إلى المنزل, رأساً قصدت المطبخ.. كانت تعرف أن أمها تكون هناك في هذا الوقت من النهار، ودلها على ذلك صوت الراديو العالي.. أثلج صدرها وجود جدتها بالمطبخ, حيت الجميع وجلست واجمة على أقرب (بنبر) وجدته.. التفتت إليها أمها متسائلة: (بسم الله, مالك الليلة ما قمتي عملتي مرور على كيس العيش والحلة زي كل يوم؟؟).. ابتسمت بصمت, وناولت أمها المظروف قائلة: (هاك يا أمي).. أخذته منها باستغراب قائلة: (سجمي فصلوك؟؟) ردت هادئة تبادلها السجع: (لا أبداً وصلوك).. فضت أمها المظروف بهدوء, أخرجت ما به من أوراق تفحصتها بدهشة.. أعادت قراءتها.. سألتها جدتها: (خير يا”هادية” في شنو؟؟) فسردت عليها ما حدث بالتفصيل، وكانت الجدة تكتفي بهز رأسها دليل متابعتها للحديث.. أعادت والدتها الأوراق إلى مكانها قائلة: (رجعى ليهو ورقوا وحاجاته إنتِ أصلاً مسكتيهم منو ليه؟؟ ردي عليّ, قبلتيهم منو ليه؟؟) أرادت “هادية” أن تشرح لوالدتها إلا أن جدتها أسكتتها: (مالك يا ليلى بتلومي في البنية, هي من وين كانت حتعرف إنه حيجي ليها في شغلها, أو حيقدم ليها أي حاجة.. بعدين إنتِ سمعتي الحصل كله يعني كان في الأول ولا في الآخر هي ذنبها شنو, أنحنا زمنا ده كلو محترمين سُكاتك وسُترتك للحال ووقفتك براك في رباية بتك, والحمد لله أبوها هسع كمان عايز يعوضها, ما في زول طلب منه حاجة لكن كمان ما حنقول ليها ما تقبلي منه شيء, عارفاها واقفة بي طولها لا أخت لا أخو.. على الأقل تكون مسنودة بحقها.. الله داير يعوضكم يا بتي, ربك كريم, حاولي سامحي يا بتي عشان الحياة تمشي.. أنا عارفة إنتِ الشفتيهو معاهو لا ساهل ولا هين ولا في زول بيقدر يتحملو لكن كلو بقى تاريخ, الله قدرك وهسع الله عوضك ببتك).. هزت أمي رأسها وتطلعت بعيداً بعيداً.. لا أدري هل هي تنظر إلى الماضي أم إلى الآتي.. كل ما أعرفه أنه يوم جديد.. جديد.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية